طارق عينترازي

فَلتَعِشْ أياماً مشوّقة (مثل صينيّ)

1 نيسان 2020

05 : 00

من التعابير الإنكليزية الشائعة ما يُنسَب إلى مثل صيني (أو لعنة صينية) تقول ترجمتها "فلتعشْ أياماً مثيرة" أو "فلتعشْ أياماً مشوقة". قد يكونُ جيلنا محظوظاً لأنّهُ عاشَ ليشهدَ أربعةَ أحداثٍ "مثيرةٍ ومشوقة" أدّى كلٌّ منها إلى تغييراتٍ جوهرية في الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية لأجيالٍ قادمة. فبعدَ عقودٍ خمسةٍ من جمود الحرب الباردة، انهارَ جدارُ برلين، وانضمت الصين إلى الاقتصاد العالمي، ودخل الاقتصاد العالمي ما يقاربُ ملياراً ونصفَ مليار ِمن مواطني الصين وروسيا، ودولِ الاتحاد السوفياتي السابق، وأوروبا الشرقية، وبعدها بسنواتٍ جعلتْ شبكةُ الإنترنت العالمَ قريةً كونيةً واحدة. ثم وضعتْ هواتفُ "آيفون" كلَّ ما نحتاجُ إليه من معلوماتٍ، وموسيقى، وتواصلٍ اجتماعي في راحاتِ أيدينا. والآن يؤسس فيروس كورونا لمرحلة جديدة قد يكونُ من السابق لأوانه استكشافُ معالمِها كاملةً.


 "من السابق لأوانه الإجابة على هذا السؤال" هذا ردُّ الزعيمِ الصيني "ماو تسي تونغ" على سؤالِ وزيرِ الخارجية الأميركي السابق "هنري كيسنجر" عن أثر الثورة الفرنسية في تاريخ العالم*.


لذلك من السابق لأوانه:

أولًا - معرفةُ ما إذا ما كانتِ الصين ستتفوقُ على الولايات المتحدة في قيادةِ العالم في القرن الحادي والعشرين، ومعرفةُ ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيبقى موحداً بعد تلقيه صدمةَ "البريكست" ثم إغلاقَ الحدودِ خلال أزمة "كورونا"

ثانيًا - التنبؤُ بكيفيةِ تغيّرِ الاقتصاد العالمي عندما تبدأ دولُ الغربِ إرجاعَ بعض من الصناعات التي لُزِّمتْ للصين إلى أسواق ٍقريبة جغرافياً وسياسياً، وحتى حضارياً

ثالثًا - معرفةُ مدى التغيير الذي سيلحق النظام التعليمي الراهن وتأثير تحريرِ رأس المال المحتجز بمبانٍ مدرسيةٍ وجامعية جعلتْ شبكةُ الإنترنت معظمَها لزومَ ما لا يلزم! فلنتخيلْ معاً سعادتَنا باستعادةِ ساعاتِ العمل المهدورةِ في زحمةِ السير، والتلوثِ البيئي الناتج عن توصيل التلاميذِ وإرجاعهم من مدارسهم؟

رابعًا - معرفةُ حجمِ التغييرِ في نظام الرعاية الصحية باكتشافنا سهولة الاستغناء عن ساعات الانتظار في عيادات أطباء الصحة العامة معرّضين أنفسَنا إلى أنواعٍ شتّى من العدوى.

خامسًا - معرفةُ سرعةِ البدء باعتمادِ التقنيةِ المتوافرة في أجهزة الهاتف الذكية القادرة على قياس المؤشرات الحيويّة للجسم لإجراء فحوصاتٍ طبية عن بُعد والاستغناء عن زيارات الأطباء.

وأخيراً - التنبؤُ بتغييراتِ التحالفاتِ السياسية والاقتصادية وقوانين العمل والتعليم والصحة.

إلّا أنَّ الأسابيعَ القليلةَ الماضية أعطتنا الكثيرَ من المؤشرات عن التغييرات في حياتنا اليومية وعاداتنا الاجتماعية، ومتطلبات السفر والسياحة، والتسوق.

فقد أكدت منظمةُ السياحةِ العالمية توقعَها انخفاضَ أعداد السياح بأكثرَ من خمسة وعشرين في المئة العام الحالي. ومن المرجّح أن تزدهرَ السياحةُ المحلية، أو الأقليمية، وتسبقَ السياحةَ العابرةَ للقارات ما يعني أن الدولَ والشركاتِ التي استثمرت بكثافة في بناء مراكز التسوق الضخمة ستواجهُ الكسادَ والركود.

كما أن المعارضَ والكازينوات ومدنَ الملاهي قد تواجه صعوبةً في استعادة معدلات الإشغال التاريخية. كما ستواجه السفنُ السياحية التي تشكل الخيار المفضل للمتقاعدين في أميركا الشمالية صعوبةً في إقناع الناس بحجز رحلاتهم القادمة خصوصًا بعدما أكد مركز السيطرة على الأمراض والوقاية في الولايات المتحدة أن عدوى فايروس كورونا أصابت أكثرَ من سبع مئة من ركاب "غراند برينسس" و"دياموند برينسس" كذلك أكدت السلطاتُ الكندية يوم أمس وفاةَ أربعةِ مواطنين كنديين على سفينة "هولاند أمريكا" الراسية مقابل شواطئ بانما. بناءً عليه، سيتعينُ على مشغلي هذه السفن إعادةُ بناءِ ثقة العملاء من خلال اعتمادِ تدابيرَ موثوقةٍ لحماية الركاب من الفيروسات.

وينطبق الشيء نفسه على الحدائق الترفيهية ومنتجعات التزلج والملاعب الرياضية والحفلات الموسيقية، وكل تجمع يفوق عدد جمهوره أصابع اليد الواحدة. أصبح من الضروري تركيب معدات فحص الفيروسات عند مداخل هذه الأمكنة قبل أجهزة الكشف عن المعادن. فلنتخيلْ معاً حجمَ سوق هذه المعدات التي ستتمتع به الشركات المصنعة مثل "جنرال اليكتريك" و"سيمنز" و"فيليبس". كما ستصبح معقمات الأيدي والأسطح بنسبة تركيز بين ستين وخمسة وسبعين في المئة جزءاً من أنظمة الأمان في السيارات، والمواصلات العامة، والفنادق، ومقاعد الطائرات وفي كل مساحة عامة.


طارق عنترازي | الرئيس التنفيذي لشركة جينيريشن سي



وستصبح أيضا آلات فحص الفيروسات جزءاً من متطلبات السفر، وستُثَبّتْ في المطارات قبل آلات التفتيش عن المتفجرات التي صارت جزءاً من حياة المسافرين منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ما يعني أن فحوصات الفيروسات ستصبح جزءًا من إجراءات السفر قبل السماح لنا بالصعود إلى الطائرة. وستُنشأُ قاعدةُ بيانات وبإطار قانوني وتقني لمشاركة البيانات الصحية للمسافرين مثلما جرت مشاركةُ الملفات الأمنية للركاب بين معظم دول العالم حالياً. وستُضاف ملاحظةُ "خال من الفيروسات" إلى بطاقات الصعود إلى الطائرة لكل منّا. سيكون لكلِّ هذه الإجراءات آثار على سهولة وكلفة السفر وسنتحمل - نحن المسافرين - الكلفةَ الإضافية.

تجدر الإشارة إلى أن الصين توقّفت بالأمس عن استقبال المسافرين من جنسيات أخرى حتى إشعار آخر. بالتالي سيكون من الصعب إعادة فتح الحدود بين الدول من دون التأكد من خلو القادمين من أي فيروس قد يشكل خطراً على السكان المحليين.

ونتيجة لذلك، ستحقق شركات الطيران الداخلية الإقليمية أداءً أفضل (نسبياً) على حساب ما عرف بالطيران العابر للمحيطات الذي سيطر على المشهد في السنوات العشرين الماضية. وقد أعلنت منظمة "أياتا" أن الأزمة الحالية ستؤدي إلى خسارة 250 مليار دولار من عائدات صناعة الطيران الدولية للعام الحالي. وبالتالي سوف تضطر شركات الطيران إلى الاندماج، أو تقليص حجم عملياتها، وسوف تتطلب عمليات إنقاذ مالية ضخمة، في حين أن بعضها سيعلن إفلاسها. وقد ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أمس أن شركات الطيران الأميركية طلبت من الحكومة منحًا نقدية، وليس قروضًا مدعومة! وردًا على ذلك أعلن وزير الخزانة الأميركي أن الحكومة ستتملك حصصًا في كل شركة تتطلب حزمة إنقاذ مالية؛ لأن أموال دافعي الضرائب الأميركيين يجب ألّا توزع كهبات. هل تتذكرون محاولة شركات الطيران الأميركية مقاضاة شركات طيران الخليج بدعوى المنافسة غير المشروعة بسبب حصولها على إعانات حكومية مزعومة العام 2014؟

يضاف إلى ذلك أن قوانين السلامة العامة في المباني ستُحدّث بدءاً من تحديث مرشحات الهواء المستخدمة في المباني السكنية والأماكن العامة لضمان القضاء على 99% من الفيروسات المحمولة جواً. وسيصبح فلتر مكيف الهواء في منازلنا وفي مراكز التسوق فعالًا مثل فلاتر الهواء المستخدمة في الطائرات الحديثة. لكم أن تتخيلوا حجمَ زيادة مبيعات فلاتر الهواء نتيجة الحاجة لتركيب هذه الفلاتر في ملايين المباني ومركبات النقل العام في العالم.

كما أن فتحَ الأبواب يدويا في الأماكن العامة، ومحلاتِ التجزئة، والمراحيض العامة وكل مكان عام سيصبح شيئًا من الماضي. كذلك فإن مجففات الأيدي في المراحيض العامة ستتغير مهمتها من تجفيف الأيدي إلى تعقيمها من الفيروسات إمّا بالأشعة فوق البنفسجية، أو بخلط الهواء مع كمية معينة من مطهر الأيدي. بكل بساطة من الآن وصاعدًا يجب تعقيم وتطهير كل مساحة مشتركة وكل هواء مشترك في مكان مغلق بين البشر.

في المحصلة أغلق فيروس كورونا الحدودَ والمطارات والأماكن العامة. أقفل أبواب المنازل والمدارس والجامعات، لكنّه فتح أبواب المستقبل على تغييرات تحمل معها تحديات كبرى نحن قادرون على تحويلها إلى فرص حقيقية للنمو ولتنويع مصادر الدخل. فرصة قد لا تتكرر لبناء قاعدة صناعية تنافس الصين التي لن تستطيع دبلوماسية المساعدات الطبية محو آثار احتضانها للفيروس لأسابيع طويلة دون تحذير دول العالم من خطورته. سيغلق الفيروس مطاراتنا وطرقنا أسابيع قليلة، ولكنه سيفتح أبواباً لبناء نظام صحي وتعليمي واقتصادي أكثر فعالية وإنتاجية، وأكثر مواءمة مع تكنولوجيا العصر وتحدياته.

وأخيراً، رحم الله من قال: إن المصافحة القوية علامة من علامات الثقة بالنفس.

لا مصافحة بعد اليوم!

* تم دحض هذا الاقتباس لاحقًا باعتباره خطأ في الترجمة. ومع ذلك بقيت هذه النسخة الأكثر رواجاً