عيسى مخلوف

عالم بلا عصافير!

10 حزيران 2023

02 : 01

لوحة للفنّان الياباني إيتو جاكوشو (القرن الثامن عشر)

هل آن الأوان لنقول وداعاً للعصافير؟ هذه الكائنات الصغيرة المُسالمة الموجودة على سطح الأرض منذ ملايين السنين، هل جاء دورها في الرحيل؟ لقد أعلمَنا العلماء مؤخّراً، في دراسة هي الأشمل والأوسع، أنّ ربع الطيور في أوروبا اختفى خلال زهاء أربعين عاماً. بعض أنواع العصافير، ومنها عصفور الدوري، انخفض عددها بنسبة تتجاوز السبعين في المئة. هذه العصافير التي تحبّ الأشجار والمروج والأَجَمات الصغيرة في الريف، أخذت تختفي بعدما قلّ عدد الثقوب لتكوين أعشاشها، وقلّت الأماكن التي كانت تختبئ فيها وترتاح، فضلاً عن صعوبة توفير طعامها وتدهور ظروف حياتها بصورة عامّة بسبب التغيّرات الكبيرة التي طرأت على البيئة.

خلال أقلّ من نصف قرن إذاً، فقدَتِ الطيور ما يوازي ربع عددها، فكم يبقى من الوقت لانقراضها إذا ما استمرّت الأمور كما هي الحال الآن؟ هل سنصحو يوماً على بساتين وحقول خلت من العصافير، وعلى فصول ربيع بلا صوت؟ منذ ستّين عاماً، نشرت عالمة البيولوجيا الأميركيّة راشيل كارسن كتاباً عنوانه «الربيع الصامت». ولم يكن استشراف الخطر هذا خيالاً علميّاً لأنه انطلق من أبحاث ومن معطيات واقعيّة. وما استشرفته الكاتبة منذ أكثر من نصف قرن بدأ يتجسّد أمام عيوننا اليوم.

لقد أكّدت الدراسات الحديثة أنّ المسؤوليّة الكبرى تقع على عاتق الزراعة المكثّفة التي لا تأخذ في الاعتبار مقتضيات التعامل مع البيئة، فتستعمل أسمدة ومبيدات تهدِّد يوميّاً التنوُّع البيئيّ، كما تقع على الاحتباس الحراري والتغيّرات المناخيّة والإفراط في استغلال الموارد الطبيعيّة والتوسّع الحضري واجتثاث الغابات. والسؤال الأكثر إلحاحاً اليوم: ألا يكفي ما يتهدَّد الكوكب من مخاطر على هذا الصعيد لجعل حكومات العالم تفكّر بجدّيّة في إعادة النظر في الأسلوب المتّبع في إنتاج الغذاء؟ فالخطر لا ينحصر في اختفاء العصافير فحسب، بل يَطول أجناساً كثيرة أخرى من الحيوانات، ومنها النحل الذي، إن انقرضَ، لا يعود من الممكن للكثير من النباتات أن تنتج الثمار، فهو الذي ينقل حبيبات اللقاح بين الأزهار، ويُعَدّ أهمّ ملقِّح للمحاصيل الغذائيّة. بعض الأنواع التي تتغذّى على الحشرات ينتهي بها الأمر إلى المجاعة بسبب الأساليب المتّبعة في الزراعة المكثّفة. وهذا ما سيترك، في حال عدم التحرّك السريع، أثراً حاسماً على المنظومة البيئيّة بأكملها.

كما مع الحيوان كذلك مع النبات والأشجار. ثمّة غابات يتهدّدها خطر الاندثار الكامل، وقد دُمِّر خلال القرن العشرين ما يفوق الخمسين في المئة من غابات العالم. هناك بلدان في أفريقيا وآسيا فقدت زهاء ثمانين في المئة من ثروتها الحرجيّة. ألا يضاعف هذا التعامل مع الغابات ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد القطبي وزيادة الجفاف والتصحُّر؟ الأرض الموجودة منذ مليارات السنين، هل يُعقل أن تتهدّد الحياة عليها بهـذه السرعة ولا من يضع حدّاً لهذا الوضع المتفاقم؟

إنّ الانهيار العالمي للحياة البرّيّة هو علامة على تدهور بيئيّ عميق. وتهديد عالم النبات والحيوان هو أيضاً تهديد لوجود الإنسان نفسه. كيف لا وما تتعرّض له الطيور والنباتات يتعرّض له الإنسان أيضاً حين تتلوّث التربة وتصل المبيدات إلى مياه الشرب!

بالإضافة إلى تحذير العلماء، سمعنا في العقود الأخيرة أصواتاً كثيرة ندّدت بالسياسات الغذائيّة والاقتصادية القائمة، ونادت بإعادة نظر كاملة في هذه السياسات التي تأخذ العالم إلى الهاوية. عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس طالب بأن يلتفت الغرب إلى بعض قيم الحضارات التي دمَّرها، إن أراد فعلاً أن ينقذ نفسه والبشريّة جمعاء. وهذا ما فعله جان ماري لوكليزيو، الحائز جائزة نوبل للآداب، حين لاحظ في كتابه «الحلم المكسيكي» أنّ مفاهيم الحضارات الهنديّة - الأميركيّة، خصوصاً ما يتعلّق منها باحترام عناصر الطبيعة والسعي إلى التوازن بين الإنسان والأرض، كان «في إمكانها أن تشكّل الرادع الضروري للتقدّم في الغرب». وهذا يعني أنّ التقدّم لا يستقيم فعلاً بدون ضبط هذا التوازن بالذات.

القابضون على زمام العالم لا يعنيهم سوى التسلُّط والاستئثار والربح السريع، وهم دائماً في حروب ضد بعضهم بعضاً، وضدّ الطبيعة نفسها، نباتات وحيوانات وموارد طبيعيّة. إضافة إلى ذلك، هم من أكثر المستفيدين من التقدّم التقني والتكنولوجي، لكن من أجل استعماله لمزيد من استغلال الموارد الطبيعيّة بأشكال متوحّشة، ولمزيد من صناعة الأسلحة المتطوّرة والتدمير.


MISS 3