ألكسي كوفاليف

الروس ينهارون أمام أنظارنا

12 حزيران 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

لاجئون من بلدات روسية قرب الحدود الروسيّة ـ الأوكرانية في ملجأ مؤقت في بيلغورود | روسيا ، 2 حزيران ٢٠٢٣

وقع حدث استثنائي في موسكو، في 30 أيار: في وضح النهار، تعرّضت المدينة للهجوم بأسراب من الطائرات المسيّرة (يتراوح عددها بين 5 و25 طائرة أو أكثر، بحسب المصدر الروسي الذي نقل الخبر). لم يكن ذلك التحرّك رمزياً، على غرار الطائرة المسيّرة الصغيرة التي استهدفت سارية العلم فوق قصر الكرملين الذي يشمل مكتب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل وقعت ضربات متعدّدة في أجزاء مختلفة من العاصمة الروسية. لم ينفجر أي من الطائرات المسيّرة، فقد ذكرت صحيفة «كوميرسانت» أن تلك العمليات كانت تستهدف مواقع غير محددة، لكنها وقعت فوق مبانٍ سكنية بعد إسقاطها والتشويش عليها إلكترونياً. إنها المرة الأولى التي تتعرّض فيها موسكو لهجوم جويّ منذ أن قصفها سلاح الجوّ الألماني في العام 1941.



من سوء حظّ الروس، كان ذلك الهجوم أول حادث مهين خلال أسبوع حافل بحوادث أخرى. في اليوم التالي، اختفت أخبار الهجوم من عناوين وسائل الإعلام الحكومية الروسية، وتابعت موسكو نشاطاتها وكأن شيئاً لم يحصل. اشتكى السكان من تطبيقات سيارات الأجرة الشائبة لأن خدمات نظام تحديد المواقع العالمي تعطّلت بهدف إعادة توجيه أي أسراب أخرى من الطائرات المسيّرة. كذلك، سارعت وسائل الإعلام الإخبارية المحلية إلى عرض تقييمات لأحدث مطاعم تم افتتاحها على السطوح، ولم يتساءل عدد كبير من المعلّقين اللاذعين عن احتمال أن يصبح الناس هدفاً سهلاً للاعتداءات عند التجمّع في الطوابق العليا.

ثم اتّخذ الوضع منحىً مزعجاً وغريباً بالنسبة إلى الروس. ظهرت مجموعتان تُعرّفان عن نفسَيهما باسم «فيلق حرية روسيا» و»فيلق المتطوعين الروسي» وتزعمان أنهما تتألفان من روس يقاتلون لتحرير روسيا من نظام بوتين، فعبرتا الحدود من شمال أوكرانيا نحو مقاطعة «بيلغورود» في روسيا. في مواقع متعددة على طول الحدود، واجه المقاتلون مقاومة ضعيفة واستولوا على البلدات، بعدما تخلّت معظم وحدات الجيش الروسي عن المناطق الحدودية الشمالية منذ وقتٍ طويل للتوجّه نحو شرق أوكرانيا وجنوبها. كان معظم عناصر الجيش الروسي، أو ما تبقى منهم، يترقّبون الهجوم الأوكراني المضاد الذي طال انتظاره هناك.

استولت إحدى الميليشيات الروسية ظاهرياً على بلدة حدودية لفترة وجيزة، وألقت القبض على بعض المجنّدين الروس، ودعت حاكم «بيلغورود»، فياتشيسلاف غلادكوف، إلى تبادل الأسرى. كان مفاجئاً أن يوافق هذا الأخير على العرض، لكنه عجز عن الالتزام ببنود الصفقة لاحقاً. ثم حوصرت البلدة الروسية «شيبكينو»، التي تقع على بُعد 5 أميال من الحدود وكانت تشمل حوالى 40 ألف نسمة قبل الحرب. في مرحلة معينة، تم إجلاء الناس منها سريعاً وتذمّر سكّانها بكل مرارة من عدم اهتمام موسكو بمحنتهم.

تزعم كييف من جهتها أنها لا تسيطر على العصابات الروسية، وتتماشى هذه الادّعاءات مع مزاعم روسيا بشأن جماعات مسلّحة استولت على إقليم دونباس الأوكراني في ربيع العام 2014. زاد الوضع سوءاً حين سارع مستخدمو التويتر الأوكراني إلى إعلان نشوء «جمهورية بيلهورود الشعبية» انطلاقاً من التهجئة الأوكرانية لكلمة «بيلغورود». قال البعض مازحاً إن أكثر من 100% من سكان المنطقة الروس سبق وشاركوا في استفتاء متعلّق بتأسيس الجمهورية، وهي محاكاة ساخرة لإقدام روسيا على إنشاء دولتَين غير شرعيتين في دونباس. كذلك، اخترق مقرصنون أوكرانيون عدداً من الشبكات المحلية لبثّ تصريح مزيف لشخصٍ أساء تقليد بوتين، فتكلم عن إخلاء المكان، وإعلان تعبئة عسكرية، وفرض القانون العسكري في «بيلغورود» ومناطق حدودية روسية أخرى. في غضون ذلك، نشرت مجموعتا المقاتلين سيلاً من الفيديوات حيث يظهرون داخل روسيا وهم يَعِدون الروس بتحريرهم من «البوتينيين».

بعد الهجوم على موسكو بالطائرات المسيّرة، اتّضح اليوم أن الحرب الروسية عادت لتطارد منفّذيها، إذ تبدو القوات الروسية عاجزة عن احتلال أوكرانيا والدفاع عن روسيا في الوقت نفسه. تتزامن هذه الحوادث مع تفاقم مشاعر القلق في روسيا، فقد تباطأ هجومها في دونباس وأطلقت أوكرانيا سلسلة من الاعتداءات شرقاً وجنوباً، تزامناً مع قصف الأهداف الروسية وراء خطوط القتال عبر استعمال صواريخ غربية جديدة وطويلة المدى. كذلك، بدأ الأوكرانيون يكثّفون اعتداءاتهم بالطائرات المسيّرة ضد مصافي النفط، والمطارات، ومواقع أساسية أخرى في عمق روسيا.

في غضون ذلك، يتّجه الروس إلى الانهيار. يتّضح هذا الوضع في تفاقم الصراع المرير بين رئيس «مجموعة فاغنر»، يفغيني بريغوجين، ووزارة الدفاع الروسية. يوم الأحد الماضي، نشر بريغوجين فيديو يظهر فيه ملازم في الجيش الروسي (قائد اللواء الميكانيكي رقم 72 في شرق أوكرانيا) بعدما ألقى مرتزقة «فاغنر» القبض عليه واستجوبوه. أمام الكاميرا، يعترف ذلك القائد بأنه أمر قواته العسكرية بإطلاق النار على إحدى وحدات «مجموعة فاغنر». بدأ الروس إذاً يتبادلون إطلاق النار، ويقبض مرتزقة من مجموعات خاصة على ضباط رفيعي المستوى من جيش بلدهم. تنذر هذه التطوّرات كلها بدولة توشك على التفكّك.

حتى لو لم تؤثر الاعتداءات الجوية ضد موسكو والتوغّلات العابرة للحدود على المسار العام للحرب، سيكون تأثيرها النفسي على روسيا مدمّراً. في غضون ذلك، بدأ المزاج العام في البرامج الحوارية التابعة للحملة الدعائية الروسية يميل مؤخراً نحو المواقف الانهزامية، مع أنه كان يتراوح في العادة بين المواقف الوطنية والدعوات إلى الإبادة. في البرنامج الحواري اليومي One’s Own Truth الذي تعرضه قناة NTV التابعة للكرملين، تحدثت رئيسة التحرير مارغريتا سيمونيان عن عودة شبح العام 1917، حين وجّه الألمان والنمساويون الجيش الإمبراطوري الروسي في الحرب العالمية الأولى، ثم ثار الجنود وانهار النظام. خلال منتدى عام في 1 حزيران، شكّك كونستانتين زاتولين، وهو نائب رفيع المستوى من حزب «روسيا الموحدة» الذي ينتمي إليه بوتين، بمسار تقدّم الحرب بصراحة غير مألوفة واعتبر أهدافها «غير واقعية». ثم أعلن حزبه سريعاً أنه يُحقّق بتعليقاته وقد يقرّر استنكارها.

وسط أجواء الهلع هذه، لم يعد بعض أعضاء اليمين القومي المتطرف في روسيا يستمتع بتوجيه إساءات وحشية لوزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، وشخصيات مرموقة أخرى في أعلى مراتب السلطة. هم يهاجمون بوتين اليوم مباشرةً بسبب تردّده المزعوم. بدأ إيغور «ستريلكوف» غيركين يسخر يومياً من بوتين بسبب ضعف حسّه القيادي أمام أكثر من 800 ألف مشترك بقناته على «تلغرام». كان غيركين مرتزقاً على صلة بأجهزة الأمن الروسية، وقد أدانته محكمة هولندية غيابياً بتهمة ارتكاب جرائم حرب. كذلك، تفيد التقارير بأن «نادي الوطنيين الغاضبين» (جماعة قومية متطرفة شارك غيركين في تأسيسها) يخضع للتحقيق بتهمة «تشويه سمعة الجيش» بموجب قانون تم إقراره في آذار 2022 لإسكات ما تبقّى من أصوات مستقلة أو تجريمها. تواجه السلطات الروسية موقفاً محرجاً: إذا لم تلاحق أشرس منتقدي القيادة الروسية، فسيعتبرها الكثيرون ضعيفة وستزيد سهولة نشر مواقف غير خاضعة للرقابة. وإذا بدأت بملاحقتهم، فقد تثير استياء القوميين اليمينيين الذين يُعتبَرون أكثر تورطاً في الحرب من الكرملين بحد ذاته. تتزامن هذه التطوّرات مع تورّط قوات شبه عسكرية، مثل «مجموعة فاغنر»، في صراع مطوّل مع فصائل عسكرية أخرى وتحدّيها القيادة الروسية العليا علناً.

لكن ما موقع بوتين من كل ما يحدث؟ يوم تعرّضت موسكو للهجوم بطائرات مسيّرة، التزم الرئيس الروسي الصمت في البداية، فلم يُلْقِ أي خطاب عاجل أمام الأمّة واكتفى بذكر الهجوم في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، خلال مقابلة تم تحضيرها بسرعة على هامش حضوره مؤتمر الصناعات المبتكرة. عملياً، خصّص بوتين حوالى سبع دقائق للتكلم عشوائياً عن صدام الحضارات، وانتهاكات حلف الناتو، والمسائل الاعتيادية التي تزعجه، ولم يذكر الهجوم الجوي إلا بطريقة عابرة من خلال الإشادة بجهود الدفاع الجوي الروسي لصدّ الاعتداء. في اليوم التالي، حين كان سكان مقاطعة «بيلغورود» ينتظرون من رئيس البلد أن يخفّف هلعهم، أدلى بوتين بتصريحات غير متماسكة رداً على أسئلة عن أنماط نومه و»سانتا كلوس» الروسي خلال اجتماع افتراضي مع عدد من العائلات. باختصار، لم يُعلّق بوتين ولا المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف (يكرهه المتعصبون المؤيدون للحرب بسبب مواقفه المبهمة)، على أبرز أحداث الأسبوع في جبهة القتال بأسلوب واضح.

في خطاب بوتين عن الحرب التي يُمنَع الروس من اعتبارها «حرباً»، لا مكان للانتكاسات. لم يشمل هذا الخطاب يوماً احتمال أن تدوم الحرب لهذه المدة الطويلة، أو أن تعود أوكرانيا إلى الهجوم، أو أن تهاجم الطائرات المسيّرة موسكو، أو أن يعلن مقاتلون روس نيّتهم تحرير الأراضي الروسية. في خضمّ هذه الأزمة غير المسبوقة التي صنعها بوتين بنفسه، يبدو أن سطوته على البلد بدأت تضعف.


MISS 3