أحمد الأيوبي

وقف "البرّ والإحسان" تحت وطأة تصفية الحسابات "الحريريّة"

12 حزيران 2023

02 : 00

جامعة بيروت العربية

إنطلق «البرّ والإحسان» كجمعيةٍ في ثلاثينات القرن الماضي فعملت على تغطية حاجات الناس المعيشية، ثم ساهمت في إعادة بناء مسجد علي بن أبي طالب وثانوية عمر بن الخطاب، وفي بناء المستشفى الإسلامي الذي سمّي لاحقاً مستشفى المقاصد.

عام 1985 تحوّلت الجمعية بإرادة ذاتية منها إلى وقف خيري بموجب قرار صادر عن المحكمة الشرعية السنية وكانت الجمعية تملك حينها عشرين عقاراً وقد أصبح الوقف يحوز اليوم 39 عقاراً.

أبرز مؤسسات «البرّ والإحسان»: جامعة بيروت العربية ومدرسة الطريق الجديدة وثانوية جميل الرواس وثانوية عمر فروخ، وتتواجد أملاك وقف «البرّ والإحسان» اليوم في بيروت والدبية وطرابلس وعكار والبقاع.

درّة التاج لدى وقف «البرّ والإحسان» هي جامعة بيروت العربية التي أُنشئت عام 1960 بالتعاون مع مصر، ويشرف الوقف على الجامعة وفق القانون والنظام، وقد تجاوز عدد خرّيجيها 150 ألفاً. أمّا المدارس فتمّ تأجيرها لوزارة التربية لإتاحة فرصة التعليم ما قبل الجامعي للجميع.

تأسّست الجامعة العربية خلال عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي التزم بدعمها من خلال تأمين الفريق الأكاديمي، وبهذا أصبح رئيسها مصرياً واستمرّ التعاون في هذا المجال مع الخارجية المصرية والجامعة العربية في مصر، لكنّه خلق إشكاليات حول موقع القرار وأحقّية الإدارة، باعتبار «البرّ والإحسان» صاحب الحقّ في القرار الإداري.

ومن المفارقات أنّ الاسم الرسمي لجامعة الاسكندرية هو جامعة بيروت العربية فرع الاسكندرية.

العدوي يتمرّد على الطريقة اللبنانية

قبل العام 2006 كانت مدّة رئاسة الجامعة حوالي أربع سنوات، إلى حين تعيين عمرو جلال العدوي رئيساً لها منذ آب 2006 ليكون أكثر الرؤساء شغلاً لهذا المنصب، الأمر الذي مكّنه من نسج علاقات وبناء تحالفات ومصالح مع شريحة واسعة من الطبقة السياسية بحيث نشأت مصالح معنوية وعملية مشتركة في ما بينهما، وعندما صدر قرار إنهاء خدمات العدوي ظهر الكثير من المتضرِّرين من هذا القرار، لأنّه أصبح جزءاً من الواقع السياسي، فتراه حاضراً في الاستحقاقات الانتخابية، ومنها انتخابات العائلات البيروتية، ونسج علاقات مع المسؤولين الأمنيين.

أدّى هذا المسار إلى توجّه وفد من «البرّ والإحسان» إلى مصر لمناقشة المخرج الملائم مع الخارجية المصرية ووزارة التربية وفرع الجامعة في الاسكندرية ليتّضح أنّ العدوي كان يمارس عملية تحريض متقابلة من المصريين تجاه اللبنانيين، ومن اللبنانيين تجاه المصريين وبأنّ كلا الطرفين يريد التخلّص من الآخر، ويصوِّر نفسه على أنّه صمّام الأمان للحفاظ على وضعية الجامعة واستمراريّتها. وبناءً على محادثات الطرفين صدر مرسوم من الخارجية ووزارة التربية المصرية بإنهاء خدمات عمرو جلال العدوي في لبنان بتاريخ 31/8/2023، وتعيين آخر رئيساً للجامعة. لم يتقبّل العدوي قرار إنهاء خدماته، فتواصل مع «حلفائه» من السياسيين السنّة، وطلب دعمهم لإقامة دعاوى تعطّل هذا القرار وتتيح له الاستمرار في منصب رئاسة الجامعة.

الواقع القانوني يفيد بأنّ مجلس وقف «البرّ والإحسان» يملك الجامعة العربية وهو رأس الهرم وفوق رئاسة الجامعة بمركزيّتها وفروعها في الدبيّة حيث توجد مدينة جامعية ضخمة، وطرابلس. لكنّ العدوي تمكّن من تطويع رئيس مجلس وقف «البرّ والإحسان» المهندس سعيد الجزائرلي لينقلب المشهد، فيصبح الرئيس مطواعاً لدى المرؤوس عن طريق منح الجزائرلي كل التزامات الجامعة الهندسية مناصفة.

حاول العدوي استقطاب أعضاء مجلس «البرّ والإحسان» لرفع دعاوى ضدّ الوقف لكنّهم رفضوا بمن فيهم الجزائرلي لانعدام وجود سند قانوني يمكّنه من إقامة دعوى جدية.

نشأة الأزمة في البعد القانوني

نشأت الأزمة بتقدّم المحامي محمد خير الكردي باستدعاء بوجه وقف «البرّ والإحسان» أمام المحكمة الشرعية بصفته «مسلماً سنياً بيروتياً» من دون أن يكون صاحب صفة قانونية تتيح له الادّعاء، فهو لا يمتّ للوقف أو الجامعة بصلة لتتحوّل هذه الدعوى إلى وسيلة تعطيل ومحاولة تفكيك لوضعيّتها المؤسساتية.

قابل الوقف الموقف بلائحة اعتراض ليكون الجواب بأنّ التدخّل والدعوى متعلِّقة بـ»حقوق الله تعالى» وعندما يكون الأمر متعلّقاً بـ»حقوق الله» تسقط إلزاميّة الصفة في الادّعاء، ورغم عظمة عنوان الادّعاء إلّا أنّ هذا كان أقرب إلى الاستهزاء وإساءة التوظيف لأنّه يتيح لأيٍّ كان ادّعاء تمثيل «حقوق الله» ويفتح الباب على فوضى مستطيرة تنسف قواعد القانون والأصول الشرعية.

في قلب هذا المسار العبثيّ فوجئ القضاء الشرعيّ بتصدير القاضي البدائي وائل شبارو حجّة في خطوة مستغربة، لأنّ الحجة تكون في حصر الإرث أو الوصاية وتمنع الاستئناف وهذا خلاف القانون، وبتعيين مُتَـوَلٍّ للوقف هو المحامي كابر عابدين الذي رفض تسلّم هذه المسؤولية واعتذر بسبب كونه خرّيجاً ووالده كان موظفاً في الجامعة، ورغم اعتراض وكيل الجامعة القانوني على إصدار الحجّة، قام شبارو بتعيين متوَلٍّ آخر.

وبما أنّه يحقّ للنيابة العامة في المحكمة الشرعية الطعن في القرارات الصادرة عن محكمة البداية وليس الأحكام، فقد طعنت بالقرارين واستردّت الملفّ للأسباب القانونية الموجبة وأهمّها انتفاء الصفة لدى المدّعي، وانتهت الجولة بإلغاء محكمة الاستئناف جميع القرارات السابقة، لأنّه مع إبطال الحجة تنتفي الدعوى كلياً، وهذا ما دفع إلى عدم إرجاع الملف لانتفاء وجود دعوى بعد الإبطال، وهذا ما أشكل لدى البعض واستغلّه البعض الآخر في المواجهة الإعلامية الدائرة.

أدّى هذا التطوّر إلى نشوء إشكال بين قاضي البداية ومحكمة الاستئناف وأخذ يتغذّى من تدخّل السياسيين في هذا النزاع المُفتعل.

كان من نتائج هذا المسار قيام رئيس المحاكم الشرعية السنية الشيخ محمد عساف بتغيير اختصاص غرفة القاضي شبارو ونقل الدّعاوى الوقفية من يده إلى يد القاضي الشيخ محمد هاني الجوزو بعد سلسلة القرارات المضطرِبة التي اتّخذها في قضية وقف البرّ والإحسان، والتي من شأنها أن تُحدِث أضراراً بالعمل الوقفيّ ككلّ لأنّه استسهل تجاوز القواعد القانونية في التعامل مع مؤسّسة تدير مؤسسات بهذه الضخامة، من دون داعٍ مستساغ قانوناً، لأنّ الادّعاء ينبغي أن يكون صادراً من أعضاء مجلس الوقف أو أي شخص تنطبق عليه الصفة القانونية كمدخل لمعالجة أيّ إشكال قد يكون وقع في أعمال الوقف.

إعترض صاحب الادّعاء على ما اعتبره وهباً لعقارَين في البقاع والأشرفية، وتبيّن أنّ الأوّل قدّمه الوقف لتوسعة مسجد، والثاني لبناء مسجد وهذا لا يعتبر وهباً بل نقلاً للتولية. كما جرى الحديث عن اختفاء الملف في المحكمة الشرعية مع العلم أنّ كلّ الإجراءات كانت متّخذة حسب الأصول وبعلم القاضي شبارو وبقية الموظفين، بعد أن غادر شبارو مبنى المحكمة من دون أن يقوم بتسليم الملفّ إلى المعنيين.

البعد السياسي في أزمة «البرّ والإحسان»

الملاحظة الأولى في مقاربة هذا الملفّ في بعده السياسي هي ظهور «ناشطين» غير ذوي صفة يتقدّمون بالدّعاوى أمام القضاء الشرعي على غرار ما فعلته القاضية غادة عون في استغلالها هذه المجموعات في تحريك الملفّات استنسابياً ووفق أجندة محدّدة سلفاً.

يبرز في ميدان التدخّلات السياسية حضور الرئيس سعد الحريري ومع القاضي شبارو أسماء الوزيرين السابقين نهاد المشنوق ومحمد شقير، ورئيس جمعية بيروت للتنمية أحمد هاشمية الذي يجاهر بأنّه يريد «تنظيف القضاء الشرعي»، وهناك من بدأ يطرح فتح معركة الإفتاء من الآن.

ورغم نفي البعض واستمرار البعض الآخر في حملتهم التي يتوقّع أن تتحوّل نحو المحاكم الشرعية، يسود انطباع بأنّ هناك استهدافاً للمؤسسات السنية المركزية الكبرى، بهدف تغيير مجالس أمنائها واستبدالهم بالمحسوبيات السياسية لتغيير أدوار هذه المؤسسات والتحكّم بمواردها المالية بعد جفاف موارد الدولة اللبنانية، وربما تكون هناك أهداف أبعد في التوازنات الاستراتيجية في البلد.


MISS 3