جورج بوعبدو

"صار وقت الحكي" أوّل أعماله المُمَسرحة

فيليب عرقتنجي: سافرتُ 50 عاماً إلى الوراء... لينا أبيض: استخرجتُ منه نفائس مدفونة

14 حزيران 2023

02 : 01

فيليب عرقتنجي

عرفناه مخرجاً سينمائياً وكاتب سيناريو ذاع صيته بأفلام تعكس الواقع اللبناني بلا تصنّع او تكلّف. أخرج أكثر من 40 فيلماً تنوعت بين ريبورتاج ووثائقي وأفلام شخصية وخيالية. كان الخيط الرفيع الجامع بين أعماله كلها حب الوطن والتمسك بالجذور، فحكت أفلامه الهوية والانتماء وحلم الوطن الضائع، ومنها: "تحت القصف"، "البوسطة"، "حلم الطفل البهلوان"، "بيروت أحجار وذكريات"، "طير حر"، "من عيون الأمهات" و"ميراث"...

ولكنّ المخرج الذي نقل الينا ما في داخله على الشاشات لم يشعر أنّ مهمته اكتملت. اراد اختبار ملاقاة جمهوره في مساحةٍ جامعة واحدة، ولمس أثر ما ينقله إليهم بأم العين. دبّ فيه الخوف، كيف يظهر امام الأعين والعدسات عارياً، هو من امضى عقوداً من الزمن بعيداً عنها، خلف الكاميرا ووراء الكواليس؟ أعاد إليه الثقة اتصال هاتفي من المخرجة المسرحية المخضرمة لينا ابيض، ساعدته على الغوص في اعماقه قالبةً تردّده رأساً على عقب، مستحضرةً بلمح البصر احداثاً وذكريات 50 عاماً من الزمن على خشبة المسرح بعنوان "صار وقت الحكي".

"نداء الوطن" التقت المخرج فيليب عرقتنجي والمخرجة لينا ابيض في حوار مشوق تحدثا فيه عن تجربتهما المسرحية الجديدة.





من قرع باب الآخر أولاً؟ وكيف انطلقت شرارة التعاون بينكما؟

فيليب عرقتنجي: كنت أتوق دائماً الى اعتلاء خشبة المسرح والافصاح عمّا يدور في ذهني، ولكنني كنت افتقر الى لغة التخاطب مع الجمهور فالمسرح بطبيعته مبني على التواصل الشفهي، وبالتالي كنت متردداً جداً. وقد حصل تواصل لمرات عدّة مع أبيض قبل جائحة كورونا، ولكن الأمور اقتصرت على محادثات هاتفيّة فقط. وفي العام 2020 خلال فترة الحجر وأثناء قيامي ببعض الأعمال الخاصّة والتفكير بالمسرحية وصلني اتصال هاتفي مباغت من أبيض قلب الأمور رأساً على عقب، ومنذ ذلك الحين بدأت الفكرة بالتبلور أكثر فأكثر الى حين اصبحت جاهزاً لتقديم المسرحية. والجدير بالذكر أننا أدخلنا هذا الاتصال الهاتفي في صلب الموضوع ليكون حاضراً على خشبة المسرح.

لينا أبيض: أعشق التعاون مع من ليست لديهم تجربة مسرحية سابقة ولا تربطني بهم معرفة ولا صداقة. ولأنني أهوى اختبار ما أجهله اتصلت بعرقتنجي. برهنت عن هذه النزعة لدي مراراً في محطات عدة خلال عملي مع تلامذتي في الجامعة، وتعاوني مع الممثلة جوليا قصّار الذي أثمر ثلاث مسرحيات من "طقوس الاشارات والتحولات"، الى "مرا لوحدا"، و"الديكتاتور"، بالاضافة الى القراءات التي جمعتنا سوياً، وعملي مع الممثلة الفلسطينية رائدة طه في مسرحية "ألاقي زيّك فين يا علي" و"عائد الى حيفا" وغيرها من الأعمال. وثمة تجربة ستبصر النور قريباً مع وداد حلواني رئيسة "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين".

باختصار لدي متعة لا توصف حين أعمل مع أشخاص بعيدين عن المسرح وأجذبهم إليه، يستهويني الأمر الى اقصى درجة وأحبّ من يطلعني على رغبته الدفينة في خوض تجربةٍ مسرحية. الرغبة الحقيقية تعني الحبّ الصادق واليقين المطلق بأنّ المسرح ما زال ينبض حياةً.





كيف تصفين أول تعاون لك مع عرقتنجي؟

لينا أبيض: في العمل مع فيليب لذّة كبرى كوننا ننتمي الى عالم الإخراج ونفكّر بالطريقة نفسها. وتكمن اللذة الأكبر في مرافقته بكتابة النص وحضّه على التجرّد والإفصاح عن مكنونات صدره بلا خوف أو وجل. استخرجتُ منه نفائس مدفونة في أعماقه بشفافيةٍ مطلقة. لكلّ منا طريقته في معالجة الأمور، أما الصعوبة ففي تكسير النمطية التي اعتدت عليها في أعمالي المسرحية مع شخصٍ مخضرم له نمطه الخاص في عالم السينما. ولعل أجمل ما في الأمر هو تبادل الخبرات بيننا وتحّدي الذات والاستماع الى بعضنا بعضاً، فكنا نشعر دائماً وكأننا في مختبر دائم؛ كلما غصنا بحثاً عن الذات؛ يطلب منّا المزيد. دمجنا خبراتنا ووضعناها في خدمة العمل كي يأتي بقالبٍ مكتمل.

هل خفت من هذه التجربة؟

فيليب عرقتنجي: كنت خائفاً من مثولي أمام الجمهور. حضّرت نفسي قبل الإقدام على هذه الخطوة الجريئة. أعلنت بدء العمل الفعلي في 2 شباط من العام الحالي بالرغم من أن التفكير بالمسرحية استمرّ قرابة عامين، وكنت قد كتبت النص في العام الماضي. ما قصدته أبيض بـ"الرغبة" هو امتلاكك موضوعاً حقيقياً تتشاركه مع الجمهور وتتكلّم عنه بشفافيةٍ مطلقة، خصوصاً أنني من محبّي جمع القصص، خصوصاً ما مررنا به من أحداث ومحطّات أثقلت كاهلنا، وغالباً ما كنت أحكي عنها في اعمالي السينمائية كمخرج وكاتب سيناريو. واستناداً الى خبرتي الواسعة في صناعة الأفلام وتقديمي ما يزيد على الثلاثين فيلماً عن الواقع المؤلم الذي نعيشه، وإيماناً بهذه الأرض، ومتسلّحاً بحبّي للغة العربية واللهجة اللبنانية، أقدمت على هذه الخطوة لأكمل ما بدأته في عالم السينما. أظن انّ الوقت قد حان كي أكون أنا الراوي بنفسي وليس الناقل.

لماذا قررت التعبير باللغة العربية رغم إجادتك الفرنسية أكثر؟

فيليب عرقتنجي: لست متمكناً من اللغة العربية، خصوصاً أنني ولدت وترعرعت في محيطٍ فرانكوفوني، وعشت 16 عاماً في فرنسا. زوجتي من فرنسا ولغتنا الأم هي الفرنسية، ولكنني أحنّ الى اللهجة اللبنانية وتربطني بها علاقة حب، وأود تكريمها في أوّل عمل مسرحي لي ممثلاً وراوياً.




لينا ابيض

أثناء التمارين



لماذا قرّرت الكلام الآن؟

فيليب عرقتنجي: قررت الكلام لئلا تتراكم الأفكار أكثر في ذهني. ما عشته خلال الحرب وقبلها حمّل ذاكرتي ثقلاً كبيراً كان لا بدّ لي من أن ألقيه عن ظهري، "متل الهارد ديسك اذا ما فضيتو بيفقع". نفتقر في لبنان الى كتب تاريخ تروي ما حدث فعلاً مع الاهل والمحيط والاسلاف. محكوم أنت إذاً ببناء مستقبلك من دون استنادك الى معرفةٍ عميقة بماضيك. أشجّع الفنانين والسينمائيين كلّهم على أن يدلوا بدلوهم ويحكوا قصصهم، فيعملوا على تمكين ذاكرة المجتمع لأنّ في ذلك خلاص أجيال المستقبل.



لينا أبيض وفيليب عرقتنجي



كيف اخترت عنوان "صار وقت الحكي"؟

فيليب عرقتنجي: أردت الغوص في حوار بيني وبين الولد البريء الذي في داخلي. إذا راقبت ملصق المسرحية تجد رجلاً ممسكاً بيد ولد. هذا الولد هو أنا قبل الحرب اللبنانية وانفجار بوسطة عين الرمانة. أروي قصّة هذا الولد فأسأله عن طموحاته تارةً وعن رؤيته للمستقبل طوراً. أذكر أنني كنت طفلاً أحب تصوير الفراشات وصناعة أفلام المغامرة على غرار "علي بابا" و"سندباد". ماذا تحقق اليوم من هذا الحلم؟ المسرحية إذاً رحلةٌ مع الذات للقاء الطفل الذي في داخلي ومعرفة تطلعاته وأحلامه ورأيه في الطريق الذي سلكته بعد الحرب اللبنانية والمحطّات التي مررت بها حتى الساعة.

أما من حيث التنفيذ فالمسرحية ورشة عمل أغرق فيها بالتفكير والتحضير والكتابة والمونتاج في مشغلي الخاص مع مساعدتي ومهندس الصوت. لا تقتصر على الكلام فحسب. ما أرادته أبيض هو نقل هذا المشغل الى خشبة المسرح.

لينا أبيض: كي أجعل الجمهور يعيش قصة حقيقية نقلت أغراض عرقتنجي الشخصية من منزله ووضعتها على المسرح بلا تغيير في الديكور ليبدو كل شيء حقيقياً بلا تصنّع، وكأن فيليب يزاول عمله بشكلٍ طبيعي في مشغله، ولكن المفارقة أنه هذه المرة أمام جمهورٍ عريض وليس وحده في منزله.

إلى أين تسافران بالمشاهد؟

فيليب عرقتنجي: في المسرحية مؤثراتٌ صوتية وبصرية جميلة وهادفة تسافر بالمشاهد نحو 50 عاماً الى الوراء. هذه القصص كلّها التي أود الافصاح عنها حدثت مع اللبنانيين كافة. من منّا لم تتبدل حياته بسبب الظروف القاهرة؟ ولأنّنا نعيش في بلدٍ معدوم الاستقرار، عانينا فيه الحروب والإنفجارات والأزمات على اختلاف أنواعها، بات لكلّ منا أكثر من محطّة مفصلية غيّرت حياته بالكامل وأرجعته الى نقطة الصفر. أردت مساعدة كلّ مشاهد على الرجوع الى الطفل الذي في داخله، وبذلك أحقق الهدف المنشود من المسرحية.



ملصق المسرحية



لينا أبيض: سيرى المشاهد نفسه أمام مرآة تعكس واقعه. المسرحية مؤثرة وحقيقية وشفّافة، من دون تركيباتٍ مصطنعة. آمل أن يحب الجمهور هذا العمل لأنه حقيقي في بلد تشوّهت صورته وزُيّفت فيه الحقائق، "في كتير طرابيش وتمليس"، جميلٌ أن نقدّم الحقيقة "بلا رتوش" على المسرح. وهذا تماماً ما فعله عرقتنجي ببساطةٍ مطلقة وشفافيةٍ وجرأة وتحدٍّ للذات.


* المسرحية من انتاج Co-produced by Fantascope Production & MFG Consulting ويستمر عرضها حتى 2 تموز على خشبة "مونو"، الأشرفية.


MISS 3