الروائح تُغيّر معالجة الذكريات في الدماغ وتكبح الصدمات

05 : 00

وفق دراسة أجرتها جامعة "بوسطن"، تستطيع الروائح أن تعيد إحياء الذكريات القديمة بطريقة تفيد الأطباء لمعالجة الاضطرابات المزاجية المرتبطة بالذاكرة! تُعتبر طبيعة الذاكرة من أكبر ألغاز علم الأعصاب حتى الآن. الذكريات ركيزة لهويتنا، وتشكّل المسارات الدماغية المستعملة لترسيخها محور أبحاث كثيرة حول العالم.

تكشف دراسة جديدة في "مركز علم الأعصاب للأنظمة" التابع لجامعة "بوسطن" أثر الروائح القوي على عملية استرجاع الذكريات. تتحدى هذه الفكرة نظرية شائعة منذ عقود. نُشرت نتائج البحث الجديد في مجلة "التعلم والذاكرة".

قوة منطقة الحُصين


تشير منطقة الحُصين إلى بنية دماغية صغيرة على شكل فرس البحر، وتُعتبر أساسية في عملية تشكيل الذكريات.

بشكل عام، يعجز المصابون بأي ضرر في الحُصين عن تشكيل ذكريات جديدة، وتكون هذه المنطقة أيضاً من أكثر النقاط عرضة لمرض الزهايمر. يظن الخبراء أن الحُصين يعالج الذكريات فور نشوئها ويرسّخ تفاصيل سياقية دقيقة في الذاكرة.

مع مرور الوقت، تُحلل القشرة الجبهية الذكريات، لا سيما خلال النوم، وسرعان ما تضيع مجموعة كبيرة من التفاصيل الراسخة في الحُصين. يطلق العلماء اسم "نظرية توحيد الأنظمة" على هذه العملية، وهي تفسّر السبب الكامن وراء تشوّش الذكريات مع مرور الوقت.

نظرية قيد الاختبار


وفق هذه النظرية، يترافق استرجاع ذكرى معينة بعد وقوعها مع تنشيط الحُصين، بينما تتطلب استعادة ذكرى قديمة تنشيط القشرة الجبهية، لأن الخلايا الدماغية التي تعمل عند تشكيل الذكريات تنشط مجدداً حين يستعيد الشخص تلك الذكرى.

لكن تشمل هذه النظرية بعض الجوانب غير المتماسكة. يسترجع البعض ذكريات قديمة بكل وضوح، وهي ظاهرة مألوفة لدى المصابين باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة. وتستطيع الروائح التي تحللها منطقة الحُصين المرتبطة بالذاكرة قصيرة المدى أن تُجدد ذكريات تعود إلى سنوات بعيدة.

لاختبار هذه النظرية، ربط البحث الجديد بين الذاكرة والروائح لدى نماذج من الفئران.

أنشأ الباحثون ذكريات قوية لدى الفئران عبر صعقها بسلسلة من الصدمات الكهربائية القوية لكن غير المؤذية أثناء وجودها داخل حاوية. وتزامناً مع تلقي تلك الصعقات، عرّض العلماء نصف الفئران لرائحة اللوز.

الروائح تعيد إحياء الذكريات القديمة!


في اليوم التالي، أعاد الباحثون الفئران إلى الحاوية وعرّضوا المجموعة نفسها لرائحة اللوز مجدداً.

في مجموعتَي القوارض، لوحظ أن المنطقة الدماغية المرتبطة بالذاكرة قصيرة المدى، أي الحُصين، كانت ناشطة. بعبارة أخرى، تذكّرت الفئران كلها الصدمات الكهربائية من اليوم السابق. تتماشى هذه النتيجة مع "نظرية توحيد الأنظمة". لكن حين كرر الباحثون التجربة نفسها بعد مرور 21 يوماً على الصدمة، سجّلت الفئران كلها نشاطاً معيناً في القشرة الجبهية. مع ذلك، كان النشاط أقوى في الحُصين لدى الفئران التي شمّت رائحة اللوز مقارنةً بمن تلقّت الصدمة الكهربائية وحدها.

تفاجأ الباحثون بهذه النتيجة، فقد كانوا يتوقعون رصد نشاط مضاعف في الجهة الأمامية من أدمغة جميع الفئران.

يوضح المشرف الرئيس على الدراسة، ستيف راميرز، أستاذ مساعِد في علم النفس والعلوم الدماغية: "تكشف هذه النتيجة أننا نستطيع تشغيل الحُصين مجدداً خلال نقطة زمنية معينة لا نتوقع فيها أن يتجدد نشاطه لأن الذكريات قديمة".

يعني هذا الاستنتاج أن الروائح تعيد إحياء الذكريات بالتفصيل عن طريق الحُصين.

حين تصبح الذكريات علاجاً بحد ذاته!


هذه النتيجة قد تُحدِث ثورة حقيقية في طريقة فهم معالجة الذكريات. يحتاج العلماء طبعاً إلى معرفة تفاصيل أكثر دقة بعد، لكن تكشف الدراسة الأخيرة أن "نظرية توحيد الأنظمة" ليست صحيحة في جميع الحالات. بعيداً من أهمية النتائج من الناحية الأكاديمية، قد تُمهّد هذه الدراسة لظهور أدوات جديدة لمعالجة المشاكل النفسية الناجمة عن الذكريات الصادمة، أو إجهاد ما بعد الصدمة.


يضيف راميرز: "الآن وقد عرفنا أن الرائحة تستطيع تحويل الذكريات وزيادة اتكالها على منطقة الحُصين، قد نتمكن من تطوير استراتيجيات لتنشيط الحُصين أو تعطيله. ثم نستطيع تطبيق بعض المقاربات السلوكية أو الدوائية لتعطيل الحُصين مجدداً إذا أردنا أن نقمع ذكريات الخوف بشكلٍ دائم". تحاول معظم المقاربات التي تعالج إجهاد ما بعد الصدمة أن تكبح الذكريات الصادمة أو تُخمِدها، لكن لا تنجح هذه الطريقة إلا إذا استطاع الشخص أن يتذكر الحدث الشائك أولاً. لذا قد يكون استعمال الروائح لتنشيط الذكريات جزءاً مهماً من العلاج.


MISS 3