بيئة

آخر الزرافات على وجه الأرض!

05 : 20

في العام 2010، بيعت لعبة "الزرافة صوفي" في فرنسا وحدها بكميات تفوق أعداد الزرافات المتبقية على أرض الواقع بثمانية أضعاف. وفي العام 2016، تجاوز عدد البريطانيين الذين شاهدوا زرافة وهي تركل أسداً في فيلم Planet Earth II (كوكب الأرض 2) عدد الزرافات الحقيقي بأكثر من مئة مرة. وخلال السنة نفسها، أعاد "الاتحاد العالمي للحفاظ على البيئة" تصنيف الزرافة كحيوان "مُعرّض" للانقراض. لكن حتى هذا التقييم الخطير قد يكون تفاؤلياً أكثر من اللزوم: تكشف أدلة وراثية جديدة أن الزرافة تتكوّن على الأرجح من أربعة أجناس منفصلة تطورت من تلقاء نفسها منذ مليون أو مليونَي سنة. لكن يواجه هذا الحيوان اليوم مشاكل كثيرة.

تحاول ساره فيرغيسون، طبيبة بيطرية في "مؤسسة حماية الزرافات"، وزملاؤها اكتشاف أسباب انقراض الزرافات الوشيك وكيفية إنقاذها قبل فوات الأوان. هم يتنقلون في عدد من مناطق أفريقيا التي تشمل هذه الفصيلة حتى الآن لإلصاق أجهزة تعقب بمئات الزرافات. إنها عملية مشوّقة لكنها خطيرة على البشر والزرافات معاً.

يظن الكثيرون أن الصيد غير المشروع يطرح أكبر تهديد على الزرافات في كينيا. يقتل الناس هذه الحيوانات هناك بالأسلحة والأقواس والرماح. هم يربطون سيقانها بحبال دائرية ومزودة بأشواك أو شظايا معدنية، ويُجرّدون عجلات السيارات من أسلاكها لصنع أفخاخ تتدلى من الأشجار أو تنتشر على الأرض. في أوغندا، عثرت فيرغيسون على عشرات الزرافات العالقة في الأفخاخ خلال الصيف الماضي.

الصيد غير المشروع هو واحد من مخاطر كثيرة تواجهها الزرافات. إنه تهديد خطير، ومع ذلك يسهل رصده واستهداف المرتكبين. لكن تبرز طرق غير مباشرة أخرى لقتل الزرافات.

منذ السبعينات، ارتفع عدد سكان كينيا بأكثر من أربعة أضعاف، ومن المتوقع أن يتضاعف مجدداً بحلول العام 2050. زادت المواشي في الوقت نفسه وباتت تتفوق جماعياً اليوم على الكتلة الحيوية الخاصة بالحيوانات البرية بثماني نقاط. ليست صدفة أن تتراجع أعداد الحيوانات البرية بنسبة 70% تقريباً. يتزامن توسّع العالم البشري إذاً مع انحسار عالم الحيوانات البرية. لم تبقَ إلا موارد قليلة للزرافات، إذ تُخصَّص أراضٍ إضافية للزراعة وتربية المواشي، ويفرض وجود البشر والحيوانات الأخرى مصاعب كبرى على حياة الزرافات. هم يملأون المساحات الطبيعية بضجيج صاخب، ويحوّلون مسار قنوات المياه للري، ويستنزفون الأراضي بدرجـــة مفرطة. يقول سايمون مازيان، رئيس فريق "حرس الزرافات" في كينيا: "يقطع البشر الأشجار للحصول على الفحم، لذا لا تجد الزرافات ما تأكله. وتزعج المواشي الزرافات أيضاً حين ترعى وتطاردها الكلاب". كذلك، يعيق الناس مسارات هجرة الزرافات بسبب بناء الأسوار والطرقات.

ينجم تراجع أعداد الزرافات إذاً عن تنامي العدد السكاني وتجزئة المساحات الطبيعية. يوضح ديفيد أوكونير، باحث في مجال الاستدامة السكانية في "حديقة حيوانات سان دييغو العالمية"، تفاصيل المشكلة عبر ثلاث خرائط. تكشف الخريطة الأولى مساكن الزرافات في القرن الثامن عشر: إنها مساحات طبيعية شاسعة ومترابطة في معظم أجزاء أفريقيا. وتكشف الخريطة الثانية مساكنها الراهنة: إنها بقع قليلة ومحدودة من المساحات الطبيعية التي تقتصر على 10% من نطاقها السابق. أمـا الخريطة الثالثة، فتضيف جميع مشاريع البناء المتواصلة والمُخطط لها في كينيا إلى تلك المساحات المتناقصة التي أصبحت مجزأة أكثر من أي وقت مضى.

تترافق هذه الضغوط مجتمعةً مع كلفة باهظة على الزرافات التي تتزاوج في مناسبات قليلة على مر حياتها وتحمل صغارها طوال 15 شهراً. قد تقع أي حوادث معاكسة خلال هذه المدة ويسهل أن تخسر الزرافة صغيرها. يصعب أن تتكاثر الزرافات طبعاً حين تواجه هذه التهديدات كلها.

إذا كانت الحيوانات تعجز عن التنقل في ظل عالم مُجزّأ، قد يضطر البشر لنقلها بأنفسهم. في آب 2018، شاهد المقيمون على طول طريق في شمال أوغندا منظراً غريباً: ظهرت شاحنة خضراء كبيرة مع شجيرات مُعلّقة على جانبَيها وخمس زرافات نوبية تخرج من سقفها المفتوح. قاد السائق الشاحنة ببطء لتجنب المطبّات على الطريق. كانت الزرافات من جهتها هادئة على نحو لافت طوال رحلتها الممتدة على 10 ساعات. تقول فيرغيسون: "لقد مرّت الشاحنة بالقرب من المدارس فراح الأولاد يتدفقون إلى الخارج. إنها المرة الأولى التي يشاهدون فيها أي زرافة، فكيف بالحري خمس زرافات تمرّ في بلدتهم"؟

الزرافة النوبية فصيلة فرعية من الزرافة الشمالية، ويقتصر العدد المتبقي منها على 2645. يعيش أكثر من نصف هذا العدد في "منتزه مورشيسون فولز الوطني". وغيّرت "هيئة الحياة البرية الأوغندية" مواقع جماعات صغيرة منها ونقلتها إلى مناطق محمية أخرى، وتنمو هذه الجماعات كلها هناك الآن. لكن تبقى هذه الاستراتيجية محدودة لأن الجماعات الجديدة والمتنامية لا تزال تقع في مساحات معزولة وسط عالم متبدّل. وفي بعض البلدان، لا تملك الزرافات مكاناً تقصده. تغطّي المنتزهات والمحميات الوطنية في كينيا 8% فقط من البلد، وتعيش معظم الثدييات الكبرى، بما في ذلك جميع الزرافات المنقسمة، خارج هذه الأماكن. إذا أرادت الزرافات أن تنجو، يجب أن تعيش بحضور البشر! لتحقيق هذا الهدف، تقضي حيلة فاعلة بزيادة أهمية الزرافات في المجتمعات المحلية. كانت النيجر مثلاً تشمل آخر 49 زرافة إفريقية غربية في منتصف التسعينات، وقد عاشت هذه الحيوانات كلها خارج المنتزهات الوطنية وفي أراضٍ يسكنها البشر. دعمت المنظمات المسؤولة عن المحميات تلك المجتمعات عبر تقديم القروض وبناء الآبار وتحسين فرص ازدهار السياحة البيئية. ساهمت هذه التدابير، إلى جانب قرار حكومي صارم بمنع قتل الزرافات، في إعادة فصيلة الزرافة النيجيرية من حافة الهاوية. اليوم، ترعى 600 زرافة منها الأراضي الزراعية.

في كينيا، حوّلت جماعات كثيرة أراضيها إلى محميات، وهي مناطق تخضع فيها مظاهر رعي المواشي لتدابير حذرة. مقابل تقديم ملجأ للحيوانات البرية، تتلقى المنظمات أحياناً عائدات من مشغّلي السياحة البيئية أو برامج التطوير التي تديرها جمعيات الحفاظ على البيئة. وتقدّم مؤسسة "خدمة الحياة البرية في كينيا" التي تملكها الدولة خدمات بيطرية وتدرّب الحراس. نشأ هذا النموذج للمرة الأولى منذ عقود وقد شهد ازدهاراً كبيراً في العقدَين الأخيرين، إذ تغطّي المحميات اليوم مساحات تفوق المنتزهات الوطنية في كينيا. لكن تفتقر معظم المحميات إلى الأسوار ويسهل أن تخرج منها الحيوانات. يقول دومينيك ميجال، طبيب بيطري مخضرم في "خدمة الحياة البرية في كينيا"، إن تلك الزرافات تعود أحياناً بعد تعرّضها لإصابات متنوعة، إذا عادت أصلاً! لا تزال كل واحدة من هذه المحميات منفصلة عن المساحات الأخرى، لكن بدأ بعضها يتداخل منذ فترة لإنشاء ملاجئ شاسعة ومترابطة. اليوم، أصبحت "محمية ماساي مارا الوطنية" محاطة بمساحات طبيعية في المناطق الشمالية التي تغطّي أراضي تساوي المحمية نفسها تقريباً. يشكّل "صندوق رانجيلاندز الشمالي" مجموعة دعم ناجحة على نحو خاص، ويتألف من 39 محمية تغطّي أكثر من 10 ملايين فدان. بدأت الأراضي إذاً تتداخل من جديد.


حتى الفترة الأخيرة، كانت الزرافات تعاني من إهمال علمي مفاجئ. يَقِلّ عدد الباحثين الذين أجروا دراسات عنها في المساحات البرية، لذا لا تزال أبرز جوانب حياتها غامضة. ربما يتعلق السبب بعيش الزرافة في مجتمعات متبدّلة، وفق فرضيات العلماء، ما يعني أنها تفتقر إلى التماسك الذي يميّز الفِيَلة والأسود مثلاً. بغض النظر عن السبب الحقيقي، من الواضح أن العالم أغفل عن استكشاف واحدة من أكثر الكائنات غرابة، ويبدو أنه يغفل الآن عن انقراضها الوشيك. تراجعت أيضاً أعداد جماعات حيوانية بارزة أخرى بوتيرة متسارعة من دون إحداث أي ضجة، منها الحشرات والطيور والبرمائيات. أصبح جزء من الحيوانات البرية المفضّلة لدى الناس (أسود، فهود، غوريلا...) مُهدداً أكثر مما يدرك الكثيرون. لكن وفق دراسة من العام 2018، اتّسعت هذه الفجوة بين الأفكار التفاؤلية والواقع المرير في عالم الزرافات على نحو خاص. أدت هذه النزعة إلى طمس مظاهر انقراضها عن وجه الأرض.

يأمل فريق فيرغيسون الاستكشافي أن تكون البيانات التي يجمعها مفيدة في هذا الإطار. من خلال تحديد وجهة الزرافات، يستطيع الفريق أن يساعد المسؤولين عن المحميات لإعطاء الأولوية للمناطق التي تحتاج إلى الحماية أكثر من غيرها. تعرض جينا ستايسي دوز، منسّقة بحثية في "حديقة حيوانات سان دييغو العالمية"، خريطة لمنطقة مملوكة من القطاع الخاص حيث وضع الفريق أجهزة التعقب. تخرج معظم الزرافات من المنطقة وتتجه نحو أراضٍ تملكها منظمات خاصة. في إحدى الحالات، يتجه خط أصفر على الخريطة شمالاً وينتهي فجأةً. توقّف جهاز تعقب هذه الزرافة عن نقل البيانات في حزيران 2017، أي بعد أسابيع قليلة على تشغيله. ذهب حراس الزرافات للتحقيق بما حصل، فاكتشفوا أن تلك الزرافة وقعت ضحية الصيد غير المشروع بالقرب من مدرسة ابتدائية في منطقة "موريجو" في كينيا. رداً على ما حصل، نظّم الفريق الاستكشافي حملات توعية طوال أيام حول أهمية الحفاظ على الزرافات، وأنشأ نوادي خاصة بالحيوانات البرية، وتبرّع بمقاعد وكتب مدرسية، وهي أبرز مواد تعليمية تحتاج إليها تلك المدرسة. توضح ستايسي دوز: "أصبح الناس هناك من أكبر داعمي الزرافات على الإطلاق، وبدأوا يلاحظون أن هذه الحيوانات تفيد عائلاتهم بطرقٍ أخرى".

لا تتعلق قصة انقراض الزرافات فعلياً بصيادين أشرار وحيوانات مقتولة. بل إنها قصة فصيلتَين تتعاملان مع عالمٍ مكتظ واحد يشهد تغيّرات متسارعة على نحو غير مسبوق. لن تكون نهاية هذه القصة سعيدة إلا من خلال تعايش البشر والزرافات معاً!


MISS 3