عيسى مخلوف

آسيا جبّار والنساء المُبعَدات عن نور الشمس

17 حزيران 2023

02 : 01

أحد الرسوم التحضيريّة للوحة دولاكروا: "نساء الجزائر في مخدعهنّ"

يَندر في العالم العربي أن نقرأ نصوصاً أدبيّة يكون العمل الفنّي مُنطلَقاً لها، أو جزءاً من تكوينها. الكاتبة الجزائريّة باللغة الفرنسية آسيا جبّار (1936-2015)، العضوة في الأكاديمية الفرنسية، قدّمت نتاجاً يلتقي فيه الأدب والفنّ، عنوانه «نساء الجزائر في مخدعهنّ» الذي طُبع أوّل مرّة في العام 1980، ويعدّ اليوم من كلاسيكيّات الأدب المعاصر.

إستعارت آسيا جبّار عنوان كتابها من لوحتين للفنانين دولاكروا وبيكاسو، واستلهمت منهما رحلة سرديّة تحكي قصّة نساء الجزائر قبل حرب الاستقلال وأثناءها وبَعدها، وهو الموضوع الذي عادت إليه الكاتبة في مؤلّفات أُخرى. وهي، في كتابها هذا، تتحاور مع لوحة دولاكروا التي تصوِّر المحظور: نساء الحريم، أي نساء الظلّ اللواتي لا يعرفنَ نور الشمس.

صوت آسيا جبار، في هذه القصص القصيرة التي يتألّف منها الكتاب، يحلّ محلّ الأفواه والعيون المنذورة للعتمة. كلمات الجسد المستور تخرج عبرها إلى العلن. فهي تتحدّث عن فتيات قاصرات خُطفن لتزويجهنّ، وعن «نساء تلتصق أجسادهن الميتة كلّ ليلة برجالهنّ». وهذا النتاج الأدبي المتميّز خلاصة إصغاء عميق لكاتبة عرفت كيف تنقل الأصوات المكتومة داخل عُزُلات قاسية تشبه الأسوار العالية.

تتحدّث جبّار أيضاً عن تلك القلّة من النساء العربيّات اللواتي يكتسبنَ حرّيّة الحركة والجسد والعقل، أمّا أجساد الغالبيّة المكبّلة بالأغلال، من أعمار وأوضاع اجتماعيّة مختلفة، هي، بالنسبة إليها، «أجساد أسيرة لكنّ الروح التي فيها تتحرّك أكثر من أيّ وقت مضى». وتتساءل: «نساء الجزائر اللواتي خرجنَ إلى الفضاء العامّ بعد الاستقلال، هل عبَرنَ العتبة فعلاً؟ هل تخلَّصنَ تماماً من الظلال التي طوَّقَت أجسادهنّ قروناً من الزمن؟ ولا تتوقّف عند هذا الحدّ، بل تربط بين العنف الذي يلحق بالمرأة، والعنف الذي يطال كلّ صوت مختلف ينادي بالحرية وحقوق الإنسان.

إلى الرسالة التي يحملها هذا الكتاب، هناك رسالة أخرى، فنّيّة هذه المرّة، تعطي العمل خصوصيّته من خلال استنباط لغة أدبيّة تتشكّل من جديد في ضوء الفنون التشكيليّة والتركيز على لوحة دولاكروا، التي أعاد صياغتها بيكاسو على طريقته وبأسلوبه الحديث. وصل دولاكروا إلى الجزائر في العام 1834، بعد أن أمضى شهراً كاملاً في المغرب حيث تشبَّع بـِ»ثراء بصريّ كبير». هذا هو الشرق الذي كان يتخيّله ويبحث عنه. ولقد تبعه في وقت لاحق فنّانون كُثُر طبعهم هذا الشرق وغيّر في رؤاهم الفنية وفي أساليبهم، ومنهم الفنان الفرنسي هنري ماتيس.

كانت مرجعية الفنّ الغربي، ولفترة طويلة، تنحصر في الفنّ الإغريقي وفنون النهضة الإيطالية. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأ البحث عن فنون أُخرى آسيوية وأفريقية وإسلامية. بودلير تكلّم عن التوريق والرقش، وبيكاسو عن فنّ الخط العربي، وهنري ماتيس عبَّر عن رأيه بالقول: «الشرق أنقذنا وجاءني الوحي من الشرق».

الوصول إلى الشرق العربي أحدث ثورة بصريّة لدى عدد من الفنانين الرواد الذين بدأ معهم عصر جديد لفنّ ينهل من مصادر أخرى غير التي بقيت سائدة زمناً طويلاً. آسيا جبّار عادت إلى أعمال هؤلاء. إلى الذين زاروا بلدها واستلهموا ضوءه وواقعه اليومي، أمّا هي فكانت رحلتها في الاتجاه المعاكس. جاءت إلى هنا، ورأت بلدها في عيونهم، فاتّكأت على تعبيرهم الفني لتفصح عن تعبيرها الأدبي الخاصّ وعن حكايتها الخاصّة.

الحكايات التي تحكيها آسيا جبّار تتداخل فيها أصوات الرواة، وترشح بتاريخ الجزائر، وأحوال الذات الفرديّة، على خلفيّة من ليل الاستعمار الطويل. يقول الكاتب وعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي إنّ مؤلفات جبّار تكشف أيضاً عن علاقة الكاتبة باللغة من خلال الحديث عن الكتابة والجسد، ومن خلال ما يسميه «ولادة الكاتبة في لغة أخرى غير لغتها الأصلية». بتلك اللغة كتبت تقول: «أكتب ضدّ الموت. أكتب ضدّ النسيان... أكتب على أمل أن أترك أثراً ما، ظلّاً، نقشاً في الرمل المتحرّك، في الرماد الذي يطير وفي الصحراء التي تصعد». إنّ الصراع الذي عاشته الكاتبة في مواجهتها تاريخ الاستعمار والانعكاسات المدمّرة التي تركها في بلدها على جميع المستويات، تكشف عن المعنى الحقيقي للتاريخ وقساوته، وعن دور الكتابة التي ترصد أثر الغائب. من هنا، يمكن اعتبار مؤلّفات آسيا جبّار من الكتب المصابيح التي تفتح بنورها طريق المستقبل.


MISS 3