عيسى مخلوف

هموم المرأة بين ضفّتَين وزمنَين

20 تموز 2019

09 : 16

صدر في باريس أخيراً كتابان موضوعهما المرأة بينما يحتدم السجال في لبنان حول قوانين الأحوال الشخصية. الكتاب الأوّل رواية بعنوان "إقناع النساء" (منشورات "رو فرومانتان") للكاتبة الأميركية ميغ وليتزر التي تراجع نصف قرن من الحركة النسوية في أميركا، وتتوقّف عند التيارات المختلفة التي تتقاطع وتتباين في ما بينها داخل هذه الحركة، وكيف تتجدّد من جيل إلى آخر، كما تلتفت إلى العوامل التي تتكوّن منها شخصيّة كلّ فرد على حدة. والكتاب الثاني الذي أثار صدوره اهتماماً واسعاً هو دراسة عنوانها "نسويّة متحرّرة من الاستعمار" (دار "لافابريك") للباحثة الفرنسيّة فرنسواز فيرجيس. في هذا الكتاب، ترصد المؤلّفة تاريخ الحركة النسويّة الفرنسيّة وموقفها من الاستعمار، وتتحدّث عن عبء التاريخ الاستعماري وعن وهم نهاية ذهنيّة الاستعمار المترسّخة في النفوس، عند النساء والرجال على السواء، وتدعو الحركة النسوية إلى محاربة النزعة العنصرية حتى لا تنغلق في إيديولوجيا لا يعنيها إلّا استمرار استغلال الشعوب.

وتلاحظ فيرجيس أنّ النسوية الفرنسية تنتصر لما يسمّى "المهمّة الحضاريّة" للاستعمار عندما تطلب من نساء الجنوب أن يتقيّدن بأنماط الحياة الغربيّة. من هنا، فهي تحثّ على ضرورة وضع خطّة سياسيّة فعليّة لاستئصال عقليّة الاستعمار، وتأمل في لقاء حقيقي بين الحركات النسوية، شمالاً وجنوباً، وإلغاء فكرة المركزيّة الغربيّة والهامش.

ثمّة مواضيع أخرى، تطرّقت إليها كاتبات غربيّات منذ النصف الأوّل من القرن العشرين، ومنها موضوع القواسم المشتركة بين الجنسين، والذي عبّرت عنه الكاتبة الإنكليزيّة فيرجينيا وولف في روايتها "أورلاندو"، وأتت على ذكره في محاضرة حول "المرأة والرواية" قدّمتها في جامعة "كامبريدج" (نُشرت في العام 1929) وناقشت فيها العلاقة بين الذكورة والأنوثة، وممّا قالته: "قد يكون العقل الذكوري المحض، كالعقل الأنثوي المحض، غير قادر على الإبداع ". إذا كانت هذه الأطروحات الواردة في الكتابين وفي كلام فيرجينيا وولف تشكّل أنموذجاً عن المواضيع المطروحة في الغرب راهناً، فإنّ السجال القائم في الضفّة الأخرى من المتوسّط يأتي من مكان آخر مختلف، كما هو الحال، الآن، في لبنان. ضمن هذا الأفق، هناك زمنان في العالم اليوم: زمن تعيشه الدول الديموقراطية العلمانية، وزمن ثان ما زالت تتحكّم فيه قوانين الأحوال الشخصية الدينية القائمة على التمييز ضدّ المرأة وفرض الوصاية عليها، واعتبارها، في هذا الإطار، إنساناً قاصراً يقوم بغيره لا بذاته، ولذلك فهي مواطنة من الدرجة الثانية.

تحرُّك الاتجاهات النسويّة التقدّمية بتياراتها المختلفة لا يتناول الأحوال النسائيّة فحسب، بل أيضاً أحوال المجتمعات التي تعيش فيها، وفي هذا السياق تأتي مناهضتها للعولمة وانعكاساتها على الشعوب، وخصوصاً النساء والأطفال. بعض الحركات النسائية في العالم العربي ليست بعيدة من هذا المُعترك.

هناك زمنان إذاً داخل زمننا الراهن، زمن جرى الفصل فيه بين الدين والدولة ويسمح بالطلاق وفقاً لأحكام القوانين المدنيّة، وزمن آخر، دينيّ. قوانين الأحوال الشخصيّة في الطوائف المسيحيّة ترى أنّ الرباط الزوجي رباط مقدّس حتّى الموت لأنّ "ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان". أمّا في الدين الإسلامي، فالزواج من الصغيرات القاصرات ممكن، في حين أنّه ممنوع في الدول المدنيّة، والمصابون بمرض "البيدوفيليا" هناك يلاحَقون قانونيّاً ويعالَجون في مستشفيّات متخصّصة.

ثمّة دول أخذت في الاعتبار التقدّم الذي أحرزته البشرية على المستوى العلمي، خصوصاً في المجال الطبّي، الجسدي والنفسي معاً، وأفادت منه مجتمعاتها بعد أن تخلّصت من الصورة النمطيّة التي رافقت المرأة قروناً من الزمن. وهذا ما لم تتخلّص منه الدول التي تترك أمورها الحياتيّة لمحاكم دينيّة لا تزال تقرّ بقول الإمام الغزالي إنّ "المرأة رقيق لزوجها"، أي إنّها مملوكة وتشكّل جزءاً من ملكيته الخاصّة.

قوانين الأحوال الشخصيّة تزيد من تكريس الانقسام الأهلي وتفضح تركيبة النظام الطائفي وويلاته، فهي تُغلّب تأثير المؤسّسة الدينية المحافظة على المجتمع وتتركها تفرض نظرتها التقليديّة. إنّ النظرة الى المرأة وطريقة التعامل معها – لا سيّما في ما يتعلّق بحضانة أطفالها القُصَّر والإنفاق عليهم - هما "بارومتر" يعكس، إلى حدّ كبير، تقدُّم المجتمعات ورقيّها أو تخلّفها وعدم مواكبتها مكتسبات العصر.

مع قوانين الأحوال الشخصيّة الدينيّة، نحن لا نزال ننتمي الى الزمن الآخر المتوقّف، الزمن السابق للعلم، والغافل عن ذاك الاكتشاف الذي أحرزه في القرن السادس عشر عالم الرياضيات والفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس الذي أثبت أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس.


MISS 3