محمود عثمان

تجاعيد حبر

22 حزيران 2023

02 : 00

في داخل رشيد درباس، يتبارز اثنان: الناثر والشاعر. فالأول يمتشق كل ما لديه من أسلحة البلاغة والفصاحة والثقافة والخبرة والدعابة والظرف، في وجه الثاني وهو طفل أعزل يمتشق رمحاً من مجاز. وإذا كانت الغلبة في أكثر المبارزات هي للناثر على الشاعر. فإنّ الشاعر استطاع أن يوجه إلى منافسه لكمات موجعة. وأن يفاخر بانتصاراته التي دفع من أجلها ثمناً كبيراً من الإصرار والانتظار. والحرب بينهما سجال، فلا غالب ولا مغلوب. ومن يكسب سوى العاشق الخاسر في حروب الجمال؟

كأني برشيد درباس في نثره يسبح في كل الاتجاهات. أما في شعره فيسبح في اتجاه واحد. في النثر يتوسع أفقياً، وفي الشعر يتقدم عمودياً أو يرتقي ما شاء له الحلم أو ما أسعف الفن. مفتون حتى الثمالة باللعبة البلاغية: بياناً وبديعاً وإيقاعاً. مرةً تحسبه شاعراً أندلسياً، وحيناً مملوكياً. يخلع بزة الخليل فيرتدي قناع الحداثة. ويبقى هو هو، ذاك الدرباس الساحر الذي يرقص على كل الأوتار، ويجيد كل الأدوار.

«تجاعيد حبر» آخر ما نشر. وكأنّ حياته استعارة حقاً، تتمثل في عنوان ديوان من الشعر. وهل تجاعيد الحبر دليل فتوة أم شيخوخة؟ وأنا أجزم أنّ الرشيد ما زال «فتى الفتيان» يخطب ود القصيدة ويطلب يد القافية.

فكم جالسته وكأنني في حضرة قوة خفية تمدني بالطاقة والجاذبية. وتجعل عشقي للحياة أجمل وأنقى. وكم رحت أشنّف أذني، وأنعش ذاكرتي، بما يجود من متع اللفظ، وحكم المعاني، وسبائك الأمثال، ودرر النظم، ونوافير الضحك الوقور، وهو جار البحر وربيب الجزر التي علمته الغوص في العمق، والإبحار في الأفق.


MISS 3