عيسى مخلوف

تاريخ الهجرة وتَشَكُّل الهويّات

24 حزيران 2023

02 : 01

الملصق الإعلاني للمتحف: الملك لويس الرابع عشر من أبناء المهاجرين أيضاً

تاريخ الهجرة هو تاريخ الدول نفسها إذ لا يمكن فهم هويّاتها إلاّ من خلال معرفة تواريخ اللواتي والذين جاؤوا من الخارج وأصبحوا جزءاً من المجتمع الذي وصلوا إليه. تظهر الإحصاءات الحديثة أنّ نسبة المتحدّرين من الهجرة تفوق أكثر من شخص واحد من كل أربعة فرنسيين، سواء كان هذا الشخص هو نفسه من المهاجرين أم من أبناء أسر مهاجرة.

خلال الحرب العالميّة الأولى، عملت الدول المتحاربة على استقدام جنود من مستعمراتها للقتال في أوروبا، ووهبت المستعمرات الفرنسيّة في أفريقيا والهند الصينيّة أكثر من ثمانمئة ألف من سكّانها لفرنسا، كجنود أُرسلوا إلى الجبهات الأماميّة أو كعمّال استُخدموا لحفر الخنادق ونقل المؤن. واليوم أيضاً، لا يزال قسم كبير من المهاجرين وأبنائهم يساهم في تشغيل عجلة الحياة اليوميّة من خلال القيام بأعمال صعبة، غير معترف بأهمّيّتها؟ والسؤال: هل كان لفرنسا، وغيرها من الدول المتقدّمة، هذا الغنى الهائل في الآداب، والفنون التشكيلية والمشهدية، والموسيقى، والرياضة، وفنّ الطهي، لولا المساهمات المختلفة التي جاءت من أمكنة متنوّعة ومن حساسيات جمالية أخرى، ومن مذاقات ونكهات كثيرة؟ هذا إذاً ما يصنع تاريخ بلد ما، لا صفحات مجتزأة من أوراق هذا التاريخ، وهذا ما أصرّ على الكشف عنه «المتحف الوطني لتاريخ الهجرة» الذي افتُتحَ هذا الشهر في حلّته الجديدة كاشفاً أنّ فرنسا، خصوصاً فرنسا الثقافية، هي ابنة التنوُّع والانفتاح على الثقافات الأخرى والنهل منها والتفاعل معها. يواكب افتتاح هذا المتحف إعادة النظر في قانون الهجرة، والسجالات العقيمة التي تفسد الحوار الحقيقي حول هذا الموضوع وتوظّفه سياسيّاً للمزيد من الحقد وشحن النفوس.

أمام التحوّلات الراهنة وصعود النزعة العنصريّة في أوروبا ومناطق عدّة من العالم، تصبح صروح ثقافية كهذه ضرورة ملحّة لإعادة النظر في مواضيع حوّلتها السياسة إلى أفخاخ وجعلتها تخضع لاستقطابات واعتبارات لا تخدم المقيمين والمهاجرين معاً، بل تثبت مناخات سلبيّة تحوّل المجتمعات إلى قنابل موقوتة. أماكن ثقافيّة كهذه تذكّر الجميع بأنّ الهجرة التي اتخذت شكلاً آخر، منذ ثورة الاتصال والمواصلات، أصبحت شأناً عالميّاً، لا تُحصى دوافعه. نسافر هرباً من الحروب والظلم، أو سعياً إلى العلم، أو لاكتشاف العالم، أو لأسباب اقتصاديّة، وهذه الهجرات تتحوّل مع مرور الوقت إلى أحد عناصر تكوين الهويات القائمة على التعدُّد.

معرفة التاريخ بصورة موضوعيّة، تضع حدّاً للشطط القائم على أفكار مسبقة وخرافات تعمّق الهوّة بين الشعوب والثقافات. وهذا ما يركّز عليه متحف الهجرة في باريس، ذلك أنّ الهدف منه توعية العامّة حول تشَكُّل الهويّات وضرورة الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الأخرى، وبناء أسس العيش المشترك.

في حملته الإعلانيّة، اختار المتحف أن يبرز اسم الملك لويس الرابع عشر وصورته، وقدّمه بصفته «مهاجراً» وابن مهاجرين (أمّه إسبانيّة وجدّته لأمّه نمسويّة)، مع شعار يقول: «إنّه لأمر غريب، كلّ هؤلاء الأجانب الذين صنعوا تاريخ فرنسا»! إحدى خصوصيّات هذا المتحف أنه ينهض على بحوث علميّة استغرقت عقوداً من الزمن، وشارك فيها متخصّصون في مجالات مختلفة، وهي تدحض النظريات التي ارتكزت عليها أنظمة فاشيّة حاولت من خلالها تبرير نزعاتها العنصرية وحديثها عن صفاء الأعراق. من هنا يتفرّد هذا المتحف بإضاءاته على ظروف الهجرة من نواحيها المختلفة، السياسية والاقتصادية والثقافية، وبجانبه التوثيقي الذي يستند إلى ألوف الوثائق التي تغطّي قروناً من الزمن، وكذلك ببعده الأكاديمي الذي يتطلّع إلى تغيير المفاهيم السائدة والعقليّات التي تجترّ نفسها زمناً بعد آخر. سيبرز هذا المتحف للأجيال الراهنة والآتية خصائص الهجرة ودورها في تكوين المجتمعات. هنا، وفي هذه المرحلة بالذات، تكمن أهمّيته، وفكرة إنشائه يمكن أن تتحوّل نموذجاً يحتذى في العالم أجمع. إنّه، في خلفيّته الثقافيّة والإنسانيّة، دعوة إلى النسبيّة والتعدّد والانفتاح، بحثاً عن القواسم المشتركة وللحدّ من الكراهية والنزاعات والحروب.

لا اسمَ للآخر الغريب في رواية «الغريب» للكاتب الفرنسي ألبير كامو الحائز على جائزة نوبل للآداب. الغريب هو الآخر المشكوك بأمره، والذي يهدّد وجودنا، بمجرّد أنّنا نجهل تاريخه ونجهل من يكون! فلماذا لا نقترب منه إذاً ونتعرّف عليه تعرُّفاً حقيقيّاً لنكتشف أنه الجزء الآخر من أنفسنا؟


MISS 3