سمر قزي

ومن الحب ما قتل" - المبادرات الفرنسية الفاشلة في لبنان

7 تموز 2023

12 : 43

عندما يجد لبنان نفسه في أوقات الشِّدة، غالباً ما تأتي فرنسا الأمّ الحنون لإنقاذه.



الحلّ الفرنسيّ كان دائماً يردّد كلمات الحكمة: "فليكن، فليكن" (المستوحاة من أغنية البيتلز الشهيرة Let It Be).


وفي أحلك أوقات لبنان العصيبة، وبعد انفجار مرفأ بيروت صيف 2020، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جانب لبنان مجدّداً، مخاطباً اللبنانيين بكلمات "الحكمة": "أنتم صوّتم لهم".


حسناً، أيها الرئيس ماكرون، كانت هناك العديد من الأمثلة عن جنوح الديمقراطية في ظل الاحتلال. الألمان أيضاً صوّتوا لهتلر!


إذا ألقينا نظرة على مشاركة فرنسا في لبنان 2001، يمكننا رسم جدول زمني للمبادرات الفرنسية الفاشلة.

انعقد مؤتمر باريس 1 في شباط 2001. وضم البنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي (EIB)، والمفوضية الأوروبية. جمع المؤتمر 500 مليون يورو للبنان، والتي خصّصت بشكل أساسي لمشاريع البنية التحتية، مع عدم وجود إصلاحات هيكلية أو مؤسساتية مرتبطة بحزمة المساعدات.


في تشرين الثاني 2002 انعقد مؤتمر باريس 2 بطلب من الحكومة اللبنانية. وحضرته 23 دولة ومؤسسة دولية، من بينها رؤساء حكومات بلجيكا وكندا والدنمارك وألمانيا وإيطاليا ولبنان وماليزيا وقطر وإسبانيا، بالإضافة إلى رئيس المفوضية الأوروبية.


أعرب صندوق النقد الدولي، آنذاك عن تقديره للحكومة اللبنانية، لقيامها بإصلاحات مالية وخفض الدين العام من خلال إدخال نظام ضريبي جديد يشمل ضريبة القيمة المضافة.


تم تمرير بعض القوانين لإصلاحات هيكلية من أجل تلبية متطلبات المؤتمر في ذلك العام، ولا سيما قانون حوكمة قطاع الاتصالات رقم 431، وقانون حوكمة قطاع الكهرباء 362، وقانون الطيران المدني 481، وكلها تهدف إلى استقلالية، تنظيم، ومأسسة، ومن ثم خصخصة القطاعات. بيد أن الكثير من هذه الإصلاحات لم تنفّذ حتى اليوم.


تمّ الإعلان عن التزام بقيمة 4.4 مليار يورو في المؤتمر، تشمل 3.1 مليار يورو مساعدات مالية و 1.3 مليار يورو تمويل مشاريع للبنان.


لم يتم نشر حزمة المساعدات بالكامل، بسبب الافتقار إلى الإصلاحات الهيكلية وعدم قدرة الحكومة على تنفيذ المشاريع.


في كانون الأول، وعلى وقع حرب صيف 2006 التي شنت فيها إسرائيل حرباً هجومية واسعة على البنية التحتية اللبنانية بعد استفزاز من حزب الله، عُقد مؤتمر باريس 3 للبنان بناءً على طلب من الحكومة اللبنانية.


تضمنت الأهداف:


1. تقوية الحكومة لممارسة سيادتها على كامل أراضيها.

2. معالجة الاحتياجات القطاعية والاقتصادية والاجتماعية.

3. تنفيذ الإصلاحات المالية وإدارة الديون.


وكان ذلك استمرارا للعمل الذي بدأته مجموعة "أصدقاء لبنان" التي تأسست في مؤتمر ستوكهولم الذي انعقد عام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان.


بعد خمس سنوات، بلغت القروض الجديدة التي تمّ التعهد بها في ذلك المؤتمر 7.6 مليار دولار، مع نفس الوعود الإصلاحية كما باريس 2، بمشاركة 36 دولة وثماني مؤسسات مالية عالمية.

في نيسان 2018، اي قبل شهر من الانتخابات العامة، انعقد مؤتمر "سيدر" في باريس.


تمّ التعهد بمبلغ 11 مليار دولار للبنان بناءً على برنامج استثمار رأسمال في البنية التحتية وخطة إصلاح تشبه كثيراً تلك التي تم تقديمها قبل 16 عاماً.

ومع ذلك، هذه المرة، لم يتم توزيع الأموال بسبب الفشل في تنفيذ الإصلاحات، بما في ذلك إنشاء "لجنة متابعة مشتركة" للمراقبة والإشراف على مراحل تطبيق الإصلاحات.


في السادس من آب 2020، بعد يومين من تفجير مرفأ بيروت، زار الرئيس ماكرون لبنان ووقف وسط الناس في العاصمة المشلّعة والمدمرة.

وأعرب عن الحاجة إلى ميثاق سياسي جديد في لبنان، ممّا أدى إلى تهدئة الغضب الشعبي العنيف على النظام السياسي، وعقد طاولة حوار مستديرة للقادة السياسيين.

أطلقت الطاولة المستديرة لائحة بالإصلاحات التي أعيد تكرارها إلى حد كبير من لائحة إصلاحات مؤتمر سيدر.


لم تتناول الحكومة اللبنانية أيّاً من الإصلاحات المدرجة، في إشارة واضحة إلى ازدرائها بالرئيس ماكرون وجهوده.

في نيسان2021، انعقد مؤتمر لدعم لبنان في باريس لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي أعقبت التعثر. حضرته 50 دولة وجمعت 370 مليون دولار من المساعدات.


وأعيد الإعلان عن التمويل الذي كان متاحاً سابقاً من قبل الجهات المانحة في العديد من هذه المؤتمرات. ومع ذلك، فشلت فرنسا في العمل كضامن لتنفيذ الإصلاحات.


لا يمكن لهذه المعالم البارزة في مبادرات شيراك/ ماكرون أن ترقى إلى مستوى السياسة الفرنسية تجاه لبنان. من خلال النظر إلى أكثر من عشرين عاماً من المشاركة، اقتصرت المشاركة الفرنسية على إطلاق المؤتمرات والمبادرات وجمع التعهدات بالدعم المالي وحزم المساعدات. ونحن لهم من الشاكرين جدّاً!


(Merci La France!

"ومن الحب ما قتل".

دورٌ مؤذٍ

لقد أعطى المجتمع الدولي، وبصورة رئيسية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، لفرنسا دوراً في تنسيق هذه المبادرات نظراً لعلاقاتها التاريخية مع لبنان. ومع ذلك، فقد حان الوقت لإعادة النظر في دور فرنسا وما إذا كان دورها بنّاءً - أم مساهماً في تدهور الوضع في لبنان.


أدى الدعم المالي للبنان بوساطة فرنسا في السنوات العشرين الماضية، إلى إحجام الحكومات اللاحقة عن تنفيذ أي إصلاحات. ومؤخراً، كان الدعم المرتبط بالإصلاحات مدفوعاً بعدم رغبة المانحين في الترفيه عن فرنسا والمساهمة بمزيد من الأموال للبنان بدون نتيجة.


فشلت فرنسا في ضمان إجراءات الإصلاح وواجهت ازدواجية طبقة سياسية فاسدة تدعمها ميليشيا مسلّحة استغلّت ضعف الدولة.


الآن، يمرّ لبنان بانهيار اقتصادي ومالي. يبدو معه أن العلاجات القديمة لم تعد تعمل. لقد فشلت كل المحاولات للموافقة على برنامج صندوق النقد الدولي حتى الآن.

تم التوصل إلى اتفاق على مستوى الموظفين فقط.


ويتّضح من النمط التاريخي أن التعهدات بالتمويل وطلبات الإصلاح غير كافية لمعالجة قضايا لبنان. إن تعويض السلوك السيّئ بأموال جديدة لا يرقى إلى مستوى بناء الدولة.


يَعتبر النهج الفرنسي حتى الآن أن مختلف الأحزاب السياسية متساوية. حزب الله، المدعوم بترسانة من 100 ألف صاروخ وعدة آلاف من الجنود المدرّبين، يعامَل على قدم المساواة مع الأحزاب المنتخبة ديمقراطياً من الأطراف السياسية كافة. قيل لنا: "أنتم صوّتم لهم!"


Vous les avez votez!


لم يُتخذ أي موقف فرنسي ضدّ وضع حزب الله المناهض للدستور باعتباره ميليشيا مسلحة داخل الدولة، بينما تواصل المنظمة عرقلة جهود الإصلاح، إما بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال حلفائها. فمن خلال عرقلة أسس الإصلاحات الهيكلية في الكهرباء والاتصالات، تراكمت على الدولة خسائر فادحة، وتراكمت الديون على مدى السنوات العشرين الماضية بعشرات المليارات من الدولارات. وقف حزب الله وحلفاؤه ضد تشكيل هيئات تنظيمية وخصخصة القطاع العام. فشلت المبادرات الفرنسية في إدراك أن الميليشيا التي تزدهر على حساب مؤسسات الدولة الضعيفة ليست شريكاً مساوياً للأحزاب الأخرى.


على خلاف ذلك، يبدو أن فرنسا تضاعف سياساتها الفاشلة. وكان آخر موقف لها دعم مرشح حزب الله الرئاسي سليمان فرنجية الذي كان وزيراً للداخلية عندما اغتيل الرئيس الحريري، والذي كان يمثله في الحكومة وزير الأشغال العامة السابق يوسف فنيانوس، المسؤول الأول عن مرفأ بيروت عام 2020، عندما وقع الانفجار.

فرنجية حالياً هو شريك في الاقتصاد النقدي لحزب الله من خلال شركة WHISH Money، مع صلاتها برجل أعمال سوري يشكل واجهة لبشار الأسد.


لم يُتخذ أي إجراء للحدّ من تدخل وتأثير حزب الله في الحياة السياسية والاقتصادية والقضائية. على العكس من ذلك، يبدو أن فرنسا تريد مكافأة ذلك الفريق.


تدخّل حزب الله بشكل مباشر في التحقيق بتفجير المرفأ من خلال تهديد قاضي التحقيق، وعرقلة التعيينات في مجلس القضاء الأعلى لعرقلة التحقيق على أساس تقني، وحماية السياسيين والمسؤولين المتّهمين، لكن حتى هذا لم يثر أي إجراء من جانب فرنسا.


نوايا منحرفة

الشكوك تجاه نوايا فرنسا تتزايد داخل الرأي العام، بدون اتهام الدولة بالسلوك الاستعماري.

استفادت الشركات الفرنسية من نهج الحكومة الفرنسية اي "النظر في الاتجاه المعاكس" في لبنان.

توتال هي اللاعب الرئيسي في امتيازات الغاز. CMA CGM هي شركة فرنسية، لديها امتيازان لإدارة محطات الموانئ، ومؤخراً إدارة الخدمات البريدية. يجري النظر في العقود الفرنسية للبنية التحتية للكهرباء، والاستشارات الفرنسية لشركة Electricite Du Liban مستمرة منذ سنوات عديدة.


في حين أنه لم يتمّ ربط أي من هذه الأحداث بشكل واضح بأعمال النفوذ المتعمدة، إلا أن الأدلة الظرفية بدأت تشير إلى أن فرنسا قد لا تكون الكيان المناسب لتولي زمام المبادرة في حلّ محتمل للبنان، بعدما فشلت في القيام بذلك في السنوات العشرين الماضية، وربما ساهمت في الانهيار بشكل كبير وغير مباشر.


اليكم بعض الأدلة على ذلك:

- دعم سياسات الرئيس الأسبق رفيق الحريري التي أدت إلى ارتفاع الديون بسبب تثبيت سعر الصرف.

- دعم التمويل بدون تدخل يُذكر في الإصلاحات ولدور حزب الله في لبنان.

- دعم سعد الحريري بعد استقالته من الرياض والضغط على السعودية لتخفيف موقفها من السياسات المناهضة لحزب الله في لبنان.

- عقد مؤتمر سيدر بعد أشهر قليلة من تلك الحادثة وقبل شهر من الانتخابات العامة لضمان نتائج أفضل للحريري.

- عدم ضمان أو تطبيق الإصلاحات التي سبقت الانهيار بعد مؤتمر سيدر.

- عدم فرض أي عقوبات أو اتخاذ أي إجراء ضد أي كيان فاسد أو عسكري في لبنان، بينما فعلت الولايات المتحدة والسعودية ذلك.

- لقد شكّلت زيارة الرئيس ماكرون بعد تفجير المرفأ عاملاً سلبيّاً قلَّل من ردة الفعل الشعبية ضدّ السياسيين، بما في ذلك حزب الله وحليفه الرئيس السابق ميشال عون، والتي كان بإمكانها أن تشكّل نقطة تحوّل في الانتفاضات اللبنانية.

- وفقاً لفيلم وثائقي استقصائي على التلفزيون الفرنسي، فإن الكثير من الأنشطة غير المشروعة لحزب الله تتدفق من أميركا اللاتينية عبر فرنسا، التي لم تفعل الكثير لوقفها.


لقد آنَ الأوَانُ كي تتدخل الدول المؤثرة الأخرى وتأخذ زمام المبادرة قبل أن ينتهي الأمر بلبنان كدولة مارقة بعد أكثر من عشرين عاماً من المبادرات الفرنسية الفاشلة. إن الولايات المتحدة، ودولاً أخرى في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا ، والقوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية، في وضع يمكّنهم من اتخاذ الإجراءات اللازمة وإنقاذ ما تبقى من لبنان من خلال اتّخاذ موقف صارم ضدّ حزب الله وحلفائه، الذين هم في بؤرة تفكّك هذا البلد الصغير على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. 



*** مصرفية استثمارية لبنانية مركزها جنيف. يمكن الوصول إليها عبر Twitter.




MISS 3