عيسى مخلوف

أبناء الأحياء المهمّشة

8 تموز 2023

02 : 01

لا يمكن اختصار ما جرى في فرنسا في الأيام الماضية في مواقف متسرّعة عقيمة تُضاعف حالات سوء الفهم، ومشاعر الكراهية والحقد، وتعميق الجروح القديمة. هناك، بالإضافة إلى المواقف السياسيّة المعهودة في مثل هذه الظروف، الدعوة التي قام بها يميني متطرّف إلى تبرّعات مليونيّة لدعم الشرطي الذي قتل الفتى نائل، وقد أثارت هذه الحملة موجة استياء واسعة. وسائل إعلام اليمين المتطرّف لجأت، كالعادة، إلى أسلوب الشحن والتعميم، مقابل وسائل إعلام عربيّة اعتمدت على أسلوب التعميم نفسه وتحدّثث عن «عنصريّة متجذّرة داخل الفرنسيين». لكن، ثمّة سجال من نوع آخر أحياه كتّاب ومفكّرون وعلماء اجتماع وضعوا ما يجري في سياق تاريخيّ، وقدّموا اقتراحات عمليّة تساعد على إيجاد حلول للخروج من هذه الأزمة. وثمّة إجماع بين هؤلاء حول نقاط عدّة، منها أنّ عمليّة القتل وما لحقها من أعمال شغب «ليست فشلاً لسياسة المدينة بقدر ما هي فشل جميع السياسات العامّة». والنقطة الثانية تتمثّل في الحاجة الملحّة إلى إصلاح الشرطة وضبط أفعال رجالها وطريقتهم في الحفاظ على النظام، وكذلك النهج الذي يتّبعونه خصوصاً حيال الشباب الذين هم من أصول مغاربيّة وأفريقيّة.

ضمن هذا الأُفق، يعتبر مدير الأبحاث في «المركز الوطني للبحث العلمي»، الكاتب الفرنسي سيباستيان روش أنّ «الممارسات السيئة للشرطة تُقَوِّض أسس الجمهوريّة، لأنّ هذه الممارسات قائمة على العنف. وإذا كان النظام الديموقراطي يهدف إلى الجمع بين المكوّنات المختلفة للمجتمع على أساس المساواة من أجل ضمان التماسك الاجتماعي، فهناك سلوكيّات، تدينها المعايير الأخلاقيّة ويحظّرها القانون، تَحول دون ذلك. بالنسبة إلى روش: «حان الوقت لأن تدرك الطبقة السياسية هذه الحقيقة، وتمزّق حجاب الجهل الذي تفضّل أن تغطّي به عينيها». ورُبَّ سائل هنا: كيف يحدث فعلُ قَتل متعمَّد في بلد ألغى عقوبة الإعدام بموجب قانون 9 تشرين الأوّل1981، وعزّز هذا القانون المعركة التي خاضتها فرنسا لفترة طويلة «من أجل النهوض بالكرامة الإنسانيّة»؟

من جانب آخر، لاحظت عالمة الاجتماع الفرنسيّة كريستين كاستولان مونييه، في مقالة نشرتها في صحيفة «لوموند»، أنّه لا بدّ من الانتباه إلى ما يولّده الإحساس بالفشل في الحياة لدى الفئات الشابّة. «لقد آن الأوان لإعادة التفكير في تعليم الأولاد، ليس لزيادة القمع ضدّهم، ولكن لتحديد أصول العنف الذي يعبّر عنه البعض منهم والاستجابة للمعاناة التي يعيشونها. وأضافت أن لا شيء يبرِّر العنف، لكنّ العنف الذي شهدته فرنسا مؤخّراً، إنّما يشير إلى الوضع المتدهور والمتراكم منذ عقود بسبب ضعف الاستجابة التربويّة للتحوّلات العميقة في المجتمع، لا سيّما في أوساط الشباب. ولئن كانت ثمّة مبادرات يقوم بها معلّمون وأهل، وجِهات اقتصادية ورياضيّة وترفيهيّة، فهي لا تعدو كونها قطرة ماء في أوقيانوس التحدّي التربوي الذي لم يجد بعدُ ردّ الفعل اللازم. وهذا يعني أنّ المدرسة لم تقم بدورها المطلوب، ولا المؤسّسات المعنيّة بالخدمات العامّة، في مجتمع تعدّدي تتعايش فيه أوساط اجتماعيّة وثقافيّة مختلفة. في غياب هذا الدور إذاً، يُعطى مكانُ الصدارة للقطاع الخاصّ الذي يتوخّى التفوُّق في الأداء والربح. أما المعنيّون بتصحيح المسار، فهم، في المقام الأول، المسؤولون السياسيون، ومن المفترض ألّا يقتصر دورهم، كما الحال الآن، على تشجيع التعرُّف إلى مهارات الشباب، بل استخدام طرق جديدة تساعد النشء الجديد، بأصوله المختلفة، على تحقيق الذات في بيئة تحارب اللامساواة والظلم.

الكاتب والباحث المغربي في الشأن الإسلامي رشيد بنزين، المقيم في باريس، يعبّر عن أسفه لأنّ فرنسا، بعد أربعين عاماً من مسيرة المساواة ومناهضة العنصرية، التي شجبت في العام 1983 هذه «الوفيّات العنيفة» والمعاملة غير العادلة من قبل المدّعين العامّين والمحاكم، لم تحرز تقدّماً على هذا الصعيد، بل إنها تراجعت في بعض المسائل. ويتساءل: «ما الذي تمّ فعله لمحاولة بناء علاقات متوازنة بين الشرطة وأبناء الطبقة العاملة؟». ويختم رشيد بنزين بسؤال: «لتجنّب تكرار ما حدث من قتل متعمّد وأعمال تخريب وشغب، هل سيصبح أخيراً بناء اللُّحمة بين أبناء البلد الواحد أولويّة سياسية؟».

لم يسبق أن شهدت فرنسا في تاريخها الحديث «انتفاضة» مماثلة قام بها شبّان الأحياء الفقيرة المهمّشة الذين ازداد وضعهم سوءاً مع الغلاء المعيشي. هؤلاء الشبّان متروكون لقَدَرهم ولشعورهم الدائم بالاضطهاد والتمييز والإقصاء. عدم الالتفات إليهم جعل البعض منهم أيضاً صَيداً سهلاً في أيدي المتشدّدين دينيّاً. وهذا الوضع يكشف عن أزمة سياسيّة، إجتماعيّة وتعليميّة كبيرة لم يعد طمسها يُجدي.


MISS 3