كريم مروة

وجوه واعلام

سلامة موسى 1887 – 1958

14 نيسان 2020

05 : 00

سلامة موسى
سلامة موسى، بتعريف معاصريه والباحثين العرب من الأجيال اللاحقة، رائد كبير من رواد النهضة الحديثة في مصر وفي العالم العربي. أسهم، بأفكاره وبمواقفه وبأبحاثه، في نشر ثقافة المعرفة، ثقافة العلم والعلمانية والتقدم والتطور، ثقافة التحرر من التقاليد القديمة البالية التي عمّمت عصور الظلام وخرافاتها وبدعها في عالمنا العربي، في مطالع القرن العشرين وفي فترات لاحقة منه. كما أسهم في نشر أفكار الاشتراكية، متأثراً في انتمائه إليها بأفكار ماركس، متخذاً له مدرسة خاصة من مدارسها هي المدرسة الاشتراكية الفابية. وهي كانت المدرسة التي تعرّف إليها سلامة لدى زيارته في مطالع القرن العشرين إلى لندن، وتعرّفه هناك إلى الأديب الايرلندي الكبير برنارد شو أحد مؤسسي "الجمعية الفابية". والمعروف أن هذه الجمعية كانت في تبنيها للإشتراكية ترفض العنف كطريق للتغيير، وتعتبر أن التغيير باسم الاشتراكية ينبغي أن يحصل بالتدريج وبالتطور السلمي والديموقراطي. ويقول سلامة في إحدى كتاباته المتأخرة في صيغة اعتراف، وهو يتحدث عن عدد من الذين تعلّم منهم وتأثر بهم، بأن ماركس كان أكثر هؤلاء تأثيراً في حياته وفي أفكاره.

ربما كان انتماء سلامة موسى إلى الاشتراكية الفابية هو الشكل الذي أخفى فيه إنتماءه الأصلي إلى إشتراكية ماركس. إلا أنه، في الواقع، ظل أميناً لانتمائه إلى الاشتراكية الفابية. ويظهر ذلك بوضوح في رسالته المعروفة (1913) التي يحدد فيها مفهومه للإشتراكية، ويرد فيها على المعترضين عليها. وقد خاض، باسم أفكاره هذه جميعها، معارك صعبة دفاعاً عن نظرية التطور عند داروين، بعد أن قرأ نظرياته وترجم له كتابه الشهير "أصل الأنواع"، الذي يقول فيه داروين بأن للإنسان وللحيوان وللنبات تاريخاً كانوا فيه مختلفين عما هم عليه اليوم، وأن لهم مستقبلاً سيكونون فيه أيضاً مختلفين عما هم عليه في حاضرهم. كما قرأ بعناية فائقة أفكار فرويد وتأثر بها، وكتب عدداً من الكتب في علم النفس لعل أشهرها وأهمها كتابه المعروف "عقلي وعقلك"، الذي حاول فيه الدخول في عالم النفس الانسانية، الظاهر منها في السلوك والباطن والخفي منها، متأثراً بفرويد ومقدماً نظرياته الخاصة في هذا العالم.



فرح انطون



كتب الكثيرون عن سلامة موسى من معاصريه. وخالفه وخاصمه في آرائه آخرون من معاصريه. ورغم التردد الذي برز في بعض أفكاره ومواقفه، في بعض مراحل حياته، فإنه ظل منارة كبيرة في تاريخ الثقافة المصرية والعربية في القرن العشرين. ويختصر صديق عمره، كما يصفه هو، محمود الشرقاوي، صفات وسمات سلامة موسى في الكتاب الذي كرسه له تحت عنوان "سلامة موسى، المفكر والانسان" الصادر في سلسلة "كتاب الهلال"، يختصرها بالكلمات التالية: "كان له وجه رجل، وذهن شاب، وحكمة فيلسوف، وصبر مكافح، وروح متصوف، ونفس ملاك، وجرأة بطل، وقلب طفل". ويؤكد هذه الصفات عند سلامة موسى عدد من الكتاب والمفكرين العرب، كل منهم على طريقته ووفق قراءته الخاصة به لأفكار سلامة موسى، الأديب هنا، والعالم هناك، والمفكر السياسي هنالك. وأخص بالذكر أربعة من هؤلاء الكتاب والمفكرين الذين كتبوا عن سلامة موسى، والذين ينتمون إلى أجيال أربعة، وهم: لويس عوض وأنور عبد الملك وغالي شكري وكمال عبد اللطيف.

فمن هو سلامة موسى، متى ولد، وكيف نشأ، وكيف تطورت أفكاره ومواقفه، وكيف تكونت شخصيته التي ميزته، وجعلت منه رائداً كبيراً من رواد النهضة المصرية والعربية الحديثة.

ولد سلامة موسى في الرابع من كانون الثاني من العام 1887، وكان أصغر أخوته. ولد بضواحي الزقازيق المصرية، بمحافظة الشرقية. كان أبوه مسيحياً أرثوذكسياً، يشغل منصباً حكومياً، رئيساً لتحريرات مديرية الشرقية. مات والده وهو في الثانية تاركاً لعائلته ثروة كبيرة تزيد عن مائة فدان، ومتاجر ومعاشاً للأولاد وللزوجة. عاشت أمه بعد أبيه ثماني عشرة سنة. وكانت متدينة تعتقد بالخرافات. دخل سلامة في صباه كتّاباً "مسيحياً"، حفظ فيه بعض الصلوات الدينية، ودخل كتّاباً "إسلامياً" حفظ فيه بعض السور القرآنية. لكنه خرج من "الكتّابين" بعد ثلاث سنوات من دون أن يتعلم القراءة. في الحادية عشرة إنتسب إلى مدرسة ابتدائية أنشأها الأقباط في المدينة. ثم انتقل إلى المدرسة الحكومية إلى أن نال الشهادة الابتدائية. وأكمل دراسته الثانوية في القاهرة، بالمدرسة التوفيقية أولاً، ثم المدرسة الخديوية. وكانت هذه المرحلة من دراسته شديدة القسوة عليه، وتركت بعض آثارها في حياته.



سيغموند فرويد



تميزت قراءاته الأولى في المرحلة الثانوية من دراسته بالبحث عن المعرفة، إرواءً لنهمه إلى معرفة ما كان يرى ضرورة معرفته في شتى ميادين المعرفة الانسانية. وكان قد بلغ العشرين من عمره. فكان يتابع مجلة "المتقطف" لمنشئها يعقوب صروف اللبناني، أحد رواد العلم الحديث والمبشر والداعية لآراء ونظريات داروين في التطور. كما كان يتابع ما تنشره مجلة "الجامعة" لمنشئها فرح أنطون اللبناني، أحد رواد الدفاع عن الحرية الفكرية. ثم تعرّف إلى شبلي الشميل اللبناني أحد رواد الفكر العلماني المعادي للغيبيات وللخرافات والبدع، والطليعي في الانتماء إلى الاشتراكية وفي الدعوة لأفكارها. ثم أخذ يقرأ في التراث العربي، باحثاً عن الكنوز فيه، التي كان من أبطالها الماوردي وإبن المقفع. كما التفت بوعي ثاقب إلى كنوز الأدب الأوروبي الحديث، الفرنسي منه على وجه الخصوص. كان فرح أنطون، كما يقول سلامة في كتاب سيرته، مرشده إلى هذا الأدب الأوروبي الرفيع. لكنه كان يتأثر في السياسة وفي الوطنية المصرية بكتابات أحمد لطفي السيّد في جريدة "الجريدة". وكان يزداد كرهاً للاستعمار البريطاني. لكنه كان قد بدأ يرى، بتأثير من قراءاته في "المقتطف" و"الجامعة" وفي سواهما من المجلات والكتب، أن بريطانيا ليست العدو الوحيد لنهضة مصر. فقد كانت تشاركها في ذلك القوى الرجعية من أهل السياسة ومن المرجعيات الدينية في مصر بالذات.

واجهته، في تلك المرحلة المبكرة من حياته، مشاكل عائلية حين اختلف أعضاء الأسرة على قضايا مالية، أرّقته وأتعبت حياته. فقرّر مغادرة مصر إلى أوروبا لإكمال دراسته الجامعية، معتمداً على ما كان قد ورّثه إياه والده من معاش كان يكفيه لمتابعة تحصيله العلمي في الخارج. فقصد باريس وأقام فيها عاماً واحداً، عاد بعدها إلى القاهرة. وبدأ يكتب في جريدة الحزب الوطني "اللواء". وهناك إلتقى لأول مرة بفرح أنطون الذي كان ترك تأثيراً أساسياً على أفكاره الجديدة. ونشأت بينهما صداقة حميمة. لكنه سرعان ما اشتاق إلى باريس فعاد إليها بروح جديدة، وبتصميم على متابعة تثقيف نفسه، متحرراً مما كان يمكن أن تنغلق عليه ذاته لو بقي في أجواء مصر الملبّدة أجواؤها السياسية في ذلك الحين. كان يشعر بالحاجة إلى التخلص مما كان يعتبره مظاهر جهل لم يكن ممكناً بالنسبة إليه أن يتحرّر منها إلا إذا ذهب إلى أوروبا ليغرف منها ومن ثقافتها وعلومها وكنوز الأدب فيها، ما يعمق معارفه ويفتح الآفاق عنده على الجديد في جميع ميادينه.



عباس محمود العقاد



إلا أنّ سلامة موسى يعيد إنتماءه إلى الاشتراكية إلى فترة إقامته في لندن بعد باريس. ويتذكّر سلامة موسى تأثره لمرحلة قصيرة من عمره بالفيلسوف الألماني نيتشه، فيقول: "في تلك السنوات عرفت إبسن ونيتشه وبرنارد شو وولز. قضيت ليلة كاملة إلى الصباح وأنا أقرأ نيتشه. أخذني سحر أسلوبه وجراءة تفكيره. ونيتشه لا يخطو ولا يعدو، وإنما يقتحم ويثب. ولكني عندما أرجع أيضاً إلى الاستبطان الذهني أجد أني لم أتأثر كثيراً به أو أن أثره كان مقصوراً في سنوات، على الرغم من الحماسة التي كنت أتلقى بها مؤلفاته وأحفظ بها عباراته. فأنا الآن خلو أو كالخلو من المركبات الذهنية التي أستطيع أن أعزوها إلى نيتشه. ولكنه غرس فيّ الاقدام الفلسفي وحطم عندي ما كان باقياً من قيود غيبية".

يذكر سلامة موسى بتقدير كبير عدداً من كبار عصره تأثر بهم، وأسهموا في تكوين أفكاره ومواقفه، وحددوا له شخصيته التي صارت بامتياز شخصية الرائد النهضوي سلامة موسى. وكان من أهم هؤلاء داروين صاحب نظرية التطور وكتاب "أصل الأنواع"، وبرنارد شو الذي جعل منه إشتراكياً، وجعل الاشتراكية ديناً له، وفرويد الذي أدخله في عالم البحث في أعماق النفس الانسانية، في الوعي الظاهر فيها وفي الوعي الباطن، والبحث في الآن ذاته عن المصادر التي يتكون منها عقل الانسان، عقله الذي يحدد له أفكاره واتجاهاته ويحدد له شخصيته.

يقول سلامة في كتاب "تربية سلامة موسى" عن برنارد شو بأنه كان صاحب رؤية في الاشتراكية أعطاها صفة الاشتراكية الانسانية. "وهي لا تختلف عن إشتراكية ماركس العلمية. لكنّ برنارد شو، لأنه أديب وفيلسوف وفنان، قد جعل المذهب الاشتراكي مذهباً إنسانياً. ودمغ بالخزي كل من يجهل الاشتراكية أو لا يسعى إليها. وهو الذي استطاع أن ينشر هذا المذهب بين الأثرياء لأنه أثبت لهم أن أموالهم لا تساوي همومهم وما يتعرضون له من قلق، وأن الاشتراكية إنما جاءت لتغني وتزيد لا لتفقر وتنقص".



برنارد شو



ويؤكد في الفصل الخاص ببرنارد شو في كتابه "هؤلاء علموني" الأثر الذي تركه فيه هذا الأديب والفيلسوف، فجعله مثله "علميّ الذهن، أدبيّ الوسيلة، فلسفيّ الهدف... حبّب إليّ الاشتراكية ونقلها عندي من منطق العقل إلى عاطفة القلب. إنه جعلها ديانتي العملية". ونقل سلامة عن شو أنه قال، قبل وفاته بأيام في العام 1950، الكلمات التالية: "إن بين كل أمة وأمة حرباً باردة. وبين كل فرد وفرد من أبناء الأمة الواحدة حرباً باردة. وبين كل إنسان ونفسه حرباً باردة".

عمل سلامة في الصحافة طوال حياته. وكانت مساهماته في الصحافة، في بادئ الأمر، في صحف ومجلات لم يكن مؤسساً فيها، بل كان يشارك في تحريرها أو يكتب فيها مقالات أو كان يرأس تحريرها. وكان من أهم هذه الصحف والمجلات مجلة "الهلال" التي رأس تحريرها من العام 1923 حتى العام 1929. كما رأس تحرير مجلة "كل شيء" التي كانت تصدر عن "دار الهلال".



فريدريك نيتشه



أنشأ سلامة بعد تركه العمل في "دار الهلال" مجلته "المجلة الجديدة" في العام 1929، وكانت مجلة شهرية. وأصدر معها مجلة أسبوعية سماها "المصري". وعطلت السلطات "المجلة الجديدة" أكثر من مرة، لكنها بقيت تعود إلى الصدور بعد التعطيل، إلى أن توقّفت نهائياً عن الصدور في العام 1942. كما عطلت السلطات مجلة "المصري" أكثر من مرة. وخلال فترة تعطيل مجلته التحق بمجلة "البلاغ" في العام 1931. وكان أصدر أوّل مجلة له في العام 1914 هي مجلة "المستقبل" التي لم تعش طويلاً. وكانت الحرب العالمية الأولى قد انفجرت. فتنبّأ بأن هذه الحرب ستنتهي بتحطيم معظم العروش في أوروبا وبانهيار الحكم الملكي في مصر. وعندما صدرت جريدة "أخبار اليوم" في العام 1944 بدأ يكتب فيها، ثم صار عضواً في هيئة تحريرها. وبقي يمارس الكتابة في جريدة "أخبار اليوم" ثم في جريدة "الأخبار" الصادرة عن الدار ذاتها حتى وفاته في شهر آب من العام 1958.

ومن طرائف حياته ومعاناته من العسف الذي تعرّض له أنه اعتقل في العام 1947 بتهمة إلقاء قنبلة في إحدى دور السينما في القاهرة. دخل سلامة موسى على امتداد حياته الفكرية والأدبية والسياسية في صراعات وخصومات مع عدد من كبار الشخصيات الثقافية في عصره. وكان أبرز هؤلاء عباس محمود العقاد. وكان بدأ قبل ذلك خصومة مع طه حسين ثم أصبح صديقاً له. إلتقى مع طه حول التحديث في الثقافة والفكر والتحديث في المجتمع المصري. كما التقى معه في ضرورة النهل من الثقافة الأوروبية ومن تجربتها الفذة في اقتحام الجديد بحزم وإصرار. الأمر الذي جعل أوروبا، كما يقول، تتقدم بسرعة إستثنائية عن غيرها من الأمم. وكان يرى سلامة موسى في قراءته للثورة الفرنسية ولأفكارها أنها أحدثت نقلة نوعية في أوروبا. إذ أدت إلى فصل الدولة عن الكنيسة. الأمر الذي جعلها تنشئ دولاً حديثة. ويربط سلامة، في قراءته للثورة الفرنسية بين أفكارها وأفكار زعامتها، وبين عصر الأنوار الذي كان فولتير وروسو من أهم عظمائه. كما ربط بين الثورة الفرنسية وعصر الأنوار من جهة، وبين عصر النهضة في أوروبا من جهة ثانية، العصر الذي كان يشكل البداية المنطقية لتقدم أوروبا، من خلال القضاء على محاكم التفتيش، وإحداث ثورة في كل الميادين: العلم، والأدب والفن والسياسة.



طه حسين



تعرفت لأول مرة على سلامة موسى وتراثه الفكري والعلمي في العام 1948. كان ذلك من خلال متابعتي لمجلة "الكاتب المصري"، ولما كان يصدر عن دارها من كتب. وأعجبت بشخصية هذا المفكر الكبير. كان إعجابي، في البداية، ينصب على جانبين من فكره. الجانب الأول هو إهتمامه بقضية التطور وبنظرية داروين، التي كنت قد بدأت أتعرف على بعض عناصرها في ذلك الوقت. الجانب الثاني هو إهتمامه بعلم النفس. وقد شغفني كتابه "عقلي وعقلك". وما زلت أحتفظ بنسخة منه في طبعته الأولى. لقد تابعت باهتمام كتاباته حول الاشتراكية وحول حرية الفكر وأبطالها في التاريخ. ثم تابعت ما كتب عنه في مصر وفي العالم العربي. كان من الطبيعي أن يكون من بين من كتبوا عنه عدد من أنصاره وممن تأثروا به، وأن يكون بينهم من لم يكن يتفق معه. بل إنني وجدت، حتى بين الاشتراكيين المصريين، من شكك باشتراكيته، الاشتراكية الفابية، على دين برنارد شو والجمعية الفابية. لكن أحداً من الاشتراكيين المصريين لم ينكر أن سلامة موسى كان من أوائل الذين أدخلوا الفكر الاشتراكي إلى مصر. ومن المعروف أنه أصدر في العام 1913 رسالته الشهيرة تحت عنوان "الإشتراكية" يقول في تقديمها: "يدعوني إلى كتابة هذه الرسالة الوجيزة كثرة السخافات والغباوات التي تحكى عن الاشتراكية. فغرضي الأول منها تنوير الرأي العام عن ماهيتها مع بيان أغراض الاشتراكيين في أوروبا وأميركا وذكر مآثرهم في التشريع وما وصلت إليه حالة العمال من الرفاهية بمساعيهم. ولست طامعاً أن تعد هذه الرسالة دعوة للجمهور إلى الإشتراكية، ولا أن تكون سبباً في تأليف حزب أو جمعية، ولكني أطرحها أمام الجمهور القارئ عسى أن تكون خميرة تختمر بها الأفكار إلى حين تستعد البلاد للإشتراكية". 


شارك موسى، إستناداً إلى ثبات التزامه بالإشتراكية وبأفكار ماركس، في تأسيس أول حزب إشتراكي في مصر. وكان ذلك في العام 1921. إلا أن هذا الحزب سرعان ما انقسم، وأسس عدد من الذين إنفصلوا عنه "الحزب الشيوعي المصري". ونشب خلاف كبير بين الحزب الجديد وبين سلامة موسى ومحمد عبدالله عنان المؤسسين للحزب الاشتراكي.

في السبعينات من عمره شرع سلامة موسى في استخلاص بعض الدروس الأساسية من حياته. وفي الصفحات الأخيرة من كتاب سيرته "تربية سلامة موسى" يعرّف نفسه كما يلي: "وإذا شئت أيها القارئ، زيادة في التفاصيل فاعرف: 1- أني أؤمن بالحقائق. ومن هنا تعلقي بالعلم لأنه حقائق. 2- وإذا كان لا بد من عقيدة فإني أؤمن بها عندما تكون ثمرة الحقائق العلمية. فإني أعتقد مثلاً بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر. وأعمل له. لأن الإقتصاديات العصرية تومئ بذلك. 3- وأؤمن بأنه ليس في الدنيا أو الكون أو المجتمع إستقرار. لأن التطور هو أساس المادة والأحياء والمجتمعات، أي أساس الوجود. وأن الجمود الاجتماعي هو معارضة آثمة من الأشرار لسنن الكون والحياة".

وإذ هو يتجاوز السبعينات قليلاً يطرح على نفسه السؤال الآتي: "هل أقترب من نهاية العمر؟" ويجيب عن السؤال قائلاً: "أعتقد أنني ما زلت بعيداً عن هذه النهاية بنحو عشرين أو ثلاثين سنة. وسوف أتقبل هذه النهاية بطمأنينة كاملة. ولكنني أحب أن أبقي على شهواتي الذهنية الحاضرة، وأن أنهم إلى الحياة والمعرفة والفهم كما كنت في ماضي حياتي. وأحب أخيراً أن أموت كما مات الجاحظ وعلى صدره كتاب". لكن سلامة موسى مات بعد أقل من سنة من تلك الكلمات التي نطق بها حول تمنياته بالعمر المديد. 



قد يبدو من هذا الحديث عن سلامة موسى أنه كان قديساً أو ما شابه ذلك، أي أنه لم يعرف الحياة في جوانبها الانسانية. وهذا غير صحيح. فهو قد عرف الحب في بداية حياته، وعرف المعاناة في الحب. لكنه يعترف أنه فشل في الكثير من مغامراته النسائية. فاختار الزواج. وأنجب أولاداً. وعاش كما يعيش كل الناس. لكنه لم يتمكن من أن يحقق البرنامج الذي كان قد وضعه للأعوام العشرين التالية من حياته، لأنه فقدها. غير أن تراثه سيظل ماثلاً أمامنا، وأمام الأجيال اللاحقة. يقول سلامة موسى في كتاب "هؤلاء علموني"، في الفصل الذي يحمل عنوان "شو رفيق حياتي"، ملخصاً ببراعة وبدقة الأسباب التي حالت دون تحقيق نهضتنا، منيراً بكلماته الطريق الذي على أجيالنا الجديدة أن تسلكه من أجل تحقيق هذه النهضة: "مما يستحق الملاحظة أن الأمم العربية جميعها فهمت النهضة على أنها التحرر من الأجنبي المستعمر ومن الوطني المستبد. فطالبت بالإستقلال والدستور، واعتقدت أن كل شيء من أمانيها قد تمّ. ولكن الأمم الأوروبية فهمت النهضة أو النهضات المتوالية فيها على أنها قبل كل شيء تحرير الضمير البشري. ففصلت الدين من الدولة. وكافحت التقاليد. وتمردت على سلطة البابا وألغتها. واعتنقت العلوم. ومارست الفنون التي تعمل للتنوير الذهني وللسعادة البشرية. وهذا ما لم تفكر فيه الأمم العربية إلى الآن مع أنها تحمل من أعباء الظلام ما يرهق الضمائر ويسود العقول".


MISS 3