إيان بريمير

القوّة العظمى العالمية المقبلة ليست متوقّعة

15 تموز 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيسان الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ في قمّة مجموعة العشرين في بالي | إندونيسيا، 14 تشرين الثاني ٢٠٢٢

من يحكم العالم؟ كانت الإجابة على هذا السؤال سهلة في السابق. كل من يبلغ أكثر من 45 عاماً نشأ في عالمٍ تطغى عليه قوتان عظميان. كان الأميركيون وحلفاؤهم يحددون القواعد على أحد طرفَي جدار برلين، بينما يتخذ الاتحاد السوفياتي القرارات الحاسمة على الطرف الآخر. كانت معظم البلدان مضطرة لتنسيق أنظمتها السياسية والاقتصادية والأمنية مع أحد الطرفَين. بعبارة أخرى، كان العالم ثنائي القطب.

لكن في العام 1991، انهار الاتحاد السوفياتي وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، فرسمت الظروف عبر دورها المؤثر في المنظمات الدولية أو عبر فرض قوتها الطاغية. هكذا أصبح العالم أحادي القطب.

لكن تغيّر العالم مجدداً منذ 15 سنة وزاد تعقيداً. تراجع اهتمام الولايات المتحدة بحراسة العالم، أو هندسة التجارة الدولية، أو حتى دعم القيم العالمية. في المقابل، اكتسبت بلدان أخرى نفوذاً متزايداً وأصبحت أكثر قدرة على تجاهل القواعد التي لا تحبذها، حتى أنها فرضت بعض القواعد الخاصة بها أحياناً. هكذا أصبح العالم خالياً من الأقطاب وبات يفتقر إلى قادة عالميين.

تنجم معظم الأزمات الجيوسياسية التي تتصدر عناوين الأخبار يومياً (الحرب في أوكرانيا، احتدام المواجهة بسبب تايوان، التوتر النووي مع إيران وكوريا الشمالية...) عن الركود الجيوسياسي المستجد. بعبارة أخرى، لا تتعلق الأزمات بقادة فرديين، بل إنها جزء بنيوي من المشهد الجيوسياسي العام.

لكن لا يمكن أن يدوم الركود الجيوسياسي إلى الأبد، وتوحي الظروف بأن النظام العالمي المقبل سيكون مختلفاً جداً عن ما اعتدنا عليه.

لم نعد نعيش اليوم في عالم أحادي القطب أو ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب، نظراً إلى غياب القوى العظمى متعددة الأبعاد. لم تعد الولايات المتحدة والصين تدخلان في خانة القوى العظمى راهناً، أو ليس بالشكل المعتاد على الأقل. ويعني غياب القوى العظمى عدم وجود نظام عالمي واحد. نحن نتعامل اليوم مع أنظمة عالمية منفصلة لكنها متداخلة.

في المقام الأول، نشأ نظام أمني أحادي القطب. لا تزال الولايات المتحدة الدولة الوحيدة القادرة على إرسال الجنود، والبحارة، والمعدات العسكرية، إلى كل زاوية من العالم، ولا أحد يستطيع مضاهاتها في هذا المجال. كذلك، أصبح الدور الأميركي في النظام الأمني الراهن أكثر أهمية وقوة مما كان عليه منذ عشر سنوات.

بدأت الصين تطوّر قدراتها العسكرية سريعاً في آسيا أكثر من أي منطقة أخرى. يُعتبر هذا الوضع مقلقاً لحلفاء واشنطن في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فهم يتكلون راهناً على المظلة الأمنية الأميركية أكثر من السابق. كذلك، باتت أوروبا تتكل على حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة أكثر من أي مرحلة أخرى منذ عقود بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. في الوقت نفسه، أصبح الجيش الروسي أكثر ضعفاً بعد خسارة حوالى 200 ألف جندي ومعظم المعدات الأساسية في أوكرانيا، وسيجد البلد صعوبة في إعادة بنائها في ظل استمرار العقوبات الغربية.

تملك الصين وروسيا ودول أخرى أسلحة نووية، لكن لا يزال استعمال تلك الأسلحة مرادفاً للانتحار. تُعتبر الولايات المتحدة اليوم القوة العظمى الأمنية الوحيدة في العالم وستبقى كذلك طوال العقد المقبل على الأقل.

لكن لا تسمح القوة العسكرية لواشنطن بتحديد قواعد الاقتصاد العالمي لأن النظام الاقتصادي متعدد الأقطاب. تتكل الولايات المتحدة على اقتصاد قوي وحيوي لا يزال الأول في العالم، لكن تتشارك أطراف عدة القوة العالمية في هذا المجال.

رغم كثرة الكلام عن حرب باردة جديدة، تبقى الولايات المتحدة والصين متداخلتَين اقتصادياً بدرجة لا تسمح لهما بالانفصال عن بعضهما. تتابع التجارة الثنائية بين البلدين تسجيل معدلات قياسية جديدة، وتريد البلدان الأخرى أن تستفيد في الوقت نفسه من القوة الأميركية والسوق الصيني المتوسّع (من المنتظر أن يصبح الأكبر في العالم قريباً). لا يمكن أن تندلع حرب باردة اقتصادية إذا لم يكن أحد مستعداً لخوضها.

في غضون ذلك، لا يزال الاتحاد الأوروبي أكبر سوق مشترك في العالم، وهو يستطيع تحديد القواعد والمعايير التي يُفترض أن يتقبلها الأميركيون والصينيون وآخرون مقابل التعامل معه. كذلك، لا تزال اليابان قوة اقتصادية عالمية، ولو بدرجة معينة، ويشهد اقتصاد الهند نمواً متسارعاً تزامناً مع زيادة تأثيرها على الساحة العالمية.

ستتابع هذه الاقتصادات وغيرها التغيّر خلال العقد المقبل نظراً إلى أهميتها النسبية، لكن من المؤكد أن النظام الاقتصادي العالمي أصبح متعدد الأقطاب اليوم وسيبقى كذلك.

يسود توتر معيّن بين الأنظمة الأمنية والاقتصادية. تريد الولايات المتحدة أن تزيد المجالات الاقتصادية المهمة بالنسبة إلى الأمن القومي، وهي تضغط على البلدان الأخرى لتقبّل سياساتها في مجال أشباه الموصلات، والمعادن الأساسية، أو حتى تطبيق «تيك توك» قريباً. تريد الصين من جهتها أن تستعمل نفوذها التجاري لزيادة تأثيرها الدبلوماسي. في غضون ذلك، ترغب أوروبا، والهند، واليابان، ودول أخرى، في ألا يطغى النظام الأمني على النظام الاقتصادي أو العكس، ومن المتوقع أن تُحقق ما تريده.

أصبح هذان النظامان العالميان واضحَين للجميع. لكن بدأ نظام ثالث ينشأ بوتيرة متسارعة ومن المتوقع أن يصبح أكثر تأثيراً من النظامَين الآخرَين قريباً. على عكس جميع الأنظمة الجيوسياسية الأخرى، ماضياً وحاضراً، لا تتألف الأطراف التي تُحدد القواعد وتفرض نفوذها من الحكومات بل من شركات التكنولوجيا.

سمعنا جميعاً كيف استفاد الأوكرانيون من أسلحة حلف الناتو، والمعلومات الاستخبارية، والتدريبات، للدفاع عن أراضيهم. لكن لو لم تسارع شركات التكنولوجيا الغربية إلى تقديم المساعدة في أول أيام الغزو (عبر صدّ الهجمات السيبرانية الروسية والسماح للقادة الأوكرانيين بالتواصل مع جنودهم على الخطوط الأمامية)، كانت روسيا لتفصل أوكرانيا بالكامل عن شبكة الإنترنت خلال أسابيع وتنهي الحرب وتنتصر فيها، وما كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليبقى في السلطة حتى اليوم لولا شركات التكنولوجيا وقوتها في النظام الرقمي الجديد.

تقرر شركات التكنولوجيا إلى أي حد يستطيع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب التكلم بلا رقابة أمام مئات ملايين الناس، في خضم حملته للترشح للرئاسة مجدداً. ومن دون مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتها على نشر نظريات المؤامرة، ما كانت بعض الأحداث الصاخبة لتحصل، بما في ذلك الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني، أو أعمال الشغب التي أثارها سائقو الشاحنات في أوتاوا، أو ثورة 8 كانون الثاني في البرازيل.

حتى أن شركات التكنولوجيا تُحدد هويات الناس. كنا نتساءل سابقاً عن ارتباط السلوك البشري في المقام الأول بالطبيعة أو التربية. لكن لم يعد هذا السؤال قائماً. اليوم، ينبثق هذا السلوك من الطبيعة والتربية وأنظمة الحلول الحسابية. بدأ النظام الرقمي يتحول إلى عامل أساسي لتحديد طريقة عيشنا، ومعتقداتنا، ورغباتنا، والخطوات التي يمكن اتخاذها لبلوغ أهدافنا.

جمعت شركات التكنولوجيا إذاً كمّاً هائلاً من النفوذ لدرجة أن تصبح بحد ذاتها جزءاً من الأطراف الجيوسياسية المؤثرة. تسيطر هذه الشركات الربحية أصلاً على جوانب عدة من المجتمع، والاقتصاد، والأمن القومي، بعدما كانت حكراً على الدولة. وتؤثر قراراتها الخاصة مباشرةً على معيشة مليارات الناس حول العالم وتفاعلاتهم وحتى أفكارهم. كما أنها بدأت ترسم معالم البيئة العالمية التي تنشط فيها الحكومات مع مرور الوقت.

لكن كيف ستستعمل شركات التكنولوجيا قوتها المستجدة؟ تبرز ثلاثة سيناريوات محتملة. إذا تابع القادة السياسيون الأميركيون والصينيون ترسيخ نفوذهم في العالم الرقمي وإذا اصطفت شركات التكنولوجيا مع حكوماتها المحلية، قد تندلع في نهاية المطاف حرب تكنولوجية باردة بين الولايات المتحدة والصين. نتيجةً لذلك، سينقسم العالم الرقمي إلى قسمَين، وستضطر البلدان الأخرى للانحياز إلى واحد منهما، وستتفكك العولمة حين تصبح هذه التقنيات المنقسمة استراتيجياً من أهم ركائز الأمن القومي والاقتصاد العالمي.

إذا التزمت شركات التكنولوجيا باستراتيجيات النمو العالمية، فرفضت الاصطفاف مع الحكومات وحافظت على الانقسام القائم بين مجالات المنافسة الواقعية والرقمية، قد ينشأ نوع جديد من العولمة: إنه نظام رقمي عالمي. ستبقى شركات التكنولوجيا مستقلة في الفضاء الرقمي، فتُنافس بعضها سعياً وراء الأرباح بينما تتنافس الحكومات بحثاً عن النفوذ الجيوسياسي، مثلما يتسابق كبار المسؤولين الحكوميين على النفوذ في القطاعات التي تتداخل فيها الأنظمة الاقتصادية والأمنية.

لكن إذا أصبح الفضاء الرقمي أهم مجال يشهد منافسة محتدمة بين القوى العظمى، فيما يستمر تآكل الحكومات نسبةً إلى قوة شركات التكنولوجيا، سيصبح النظام الرقمي بحد ذاته النظام العالمي الطاغي. في هذه الحالة، سينشأ عالم ما بعد مؤتمر وستفاليا، وهو نظام تكنولوجي القطب حيث تكون شركات التكنولوجيا اللاعبة الأساسية في العالم الجيوسياسي خلال القرن الواحد والعشرين.

تبدو هذه السيناريوات الثلاثة معقولة، لكن لا يُعتبر أي واحد منها حتمياً. سيتوقف السيناريو المرتقب على التغيرات التي تطاول هياكل السلطة الراهنة بسبب الطبيعة المتفجرة للذكاء الاصطناعي، وقدرة الحكومات أو استعدادها لتنظيم شركات التكنولوجيا، والأهم من ذلك هو النهج الذي يختاره قادة القطاع التكنولوجي لاستعمال نفوذهم المستجد.


MISS 3