نوال نصر

يحتجنَ الى مساعدة وكبرياؤهنّ يمنعهنّ من السؤال

ماذا وراء جدران البيت الصيداوي؟

16 نيسان 2020

03 : 55

ساعدوني
لن نبكي عليهنّ بل سنصلي لهنّ ليصبرنَ على قساوة المرض ولؤم البشر وأنياب الحياة. هنّ ثلاث شقيقات، كنّ يلعبنَ كما كلّ البنات، ويحلمنَ بفارس أحلام، وبأطفالٍ ومستقبل وربيع... وها نحن في الربيع فأين هنّ؟

لسنَ بحاجة بالطبع الى مآسٍ وأوجاع وأمراض إضافية لنسردها على بعضنا وتزيد ما فينا ألماً وترفع منسوب الهلع و"الطين بلة". هنّ من الجنوب، والجنوب في هذه الأيام جميل، لكن، وراء أحد الأبواب هناك ما قد لا تتخيلون من وجع. فهل لنا أن نسمح لأنفسنا بالتوغل الى حياتهنّ؟ هل نسمح لأنفسنا أن نقرع الباب لسؤالهنّ: كيف يعشنَ؟ من قلة الموت؟ وماذا عن الموت الذي يقرع بابهنّ في اليوم القصير عشرات المرات؟

بالصدفة، قرأنا خبراً جعلنا نتجرأ لسؤالهنّ عن حالاتهنّ. الخبر يحكي عن واحدة من الشقيقات الثلاث، عمرها 35 عاماً رماها زوجها على درج البيت وعذبها وحين مرضت "بعتا لأمها". ويوم عادت تبيّن ان ثلاثتهنّ مصابات بضمور العضلات. الخبر محزن خصوصاً حين تتراكم الأحزان، من كل حدب وصوب، يُصبح التعاطف مع الآخر أقوى والإحساس أعمق. فماذا في التفاصيل، وراء جدران ذاك البيت الصيداوي؟

حين تبدأ الوالدة الكلام لا تعود قادرة على التوقف، حتى لالتقاط النفس، لكن بعد أن تقول كل شيء، كل كل شيء، تعود وتتمهّل مردّدة: بدك تحطي قصتي؟ أنا غير معتادة أن أشحذ ولا أن أشكو أمري لغير الله. لكن ماذا عن شكواها المنشورة في بريد "ليبان تروك"؟ تجيب، لم أتخيل أن أحداً سيقرأها. وقلت ما قلت.


العلاج مفقود



من دون ذكر أسماء الشقيقات الثلاث نسمع أنينهنّ. ونترك الأم تعود وتتكلم. لديّ خمسة أولاد، صبيان وثلاث بنات، والبنات الثلاث أصبنَ بضمور في المخّ. الصغرى عمرها 35 عاما، وأتاها المرض على البطيء، الوسطى وعمرها 39 عاماً وأتاها المرض بعد ثمانية أشهر فقط من زواجها، فجنّ زوجها وضربها بعد أن صارت كلما مشت تقع ورماها في بيت أهلها قائلا: "أعطوني إياها مريضة". أما الكبرى، فكما أختيها، أصيبت بنفس المرض فهاجر زوجها وتزوج عليها لكن، تقطع الأم سيل أفكارها لتقول: لكن زوج ابنتي الكبرى "طلع آدمي" تركها لكنه لم يقسُ عليها. وحقه أن يتزوج.

بين ما يحق وما لا يحق تعيش الشقيقات الثلاث بين جدران أربعة، في بيت والدة حنون، لولاها لكنا قد أصبحنا في "خبر كنّ". فهي من تقوم بنقلهنّ من غرفة الى غرفة الى مقعد الى حمام الى طبيب. هي من تقلبهنّ في أسرتهنّ كي لا يصبنَ بالعقرِ وإحداهنّ أصيبت. وهي التي "تصلي على النبي" لأن ليس أمامها إلا الصلاة. لا "نوى" من شفاء الشقيقات الثلاث، لكن الأمل يبقى موجوداً بأن يرسم العمر بعض الإبتسامات على شفاههنّ وأن يجدنَ القوت والدواء والصبر... نسمع حكايتهنّ فنشعر بأنهن صابرات، بأنهن لكثرة ما رددت والدتهنّ على مسامعهنّ "كل أمر له وقت وتدبير" أصبحن صابرات قانعات لكن ماذا عن الطعام والدواء؟

لا أحد يلتفت الى سكان هذا البيت، المليء بالوجع، سوى "الأجاويد". تقول الوالدة هذا ثم لا تلبث أن تستطرد "إستفقاد الله رحمة" ولا أريد أن "أتبهدل" آخر عمري. لا أريد أن أصبح على كل شفة ولسان.

الفقراء- الفقراء يا دولتنا يخشون من "البهدلة" فابحثوا عنهم وأنتم "توزعون" حصصاً لأنهم لن يأتوا إليكم. نتركُ تلك العائلة المتألمة ونعود الى عالمنا المليء بالألم، بنسبٍ وأحجام ومراحل، وكم يبدو "كوفيد 19" ناعماً أمام هول ذاك الضمور الذي أطبق على كلّ بنات البيت. فماذا عن هذا المرض الذي تصفه الأم في كل مرة تهمس باسمه: المرض... العضال؟


مرض آخر خبيث



تتذكرون عالم الفيزياء "ستيفن هوكينج"، المحنك ستيفن، الذي عاش ومات وهو يعاني من تصلب جانبي ضموري. هؤلاء، مثله، أذكياء جداً لكن للمرض أحكامه ووسائله وخبثه. فهل حاله كحال الشقيقات الثلاث؟ وهل يعقل أن تصاب كل فتيات البيت الواحد بمرض واحد؟

التصلب الجانبي الضموري هو مرض يؤثر على الخلايا العصبية في المخّ والحبل النخاعي مسبباً فقدان التحكم في العضلات. لاعب البيسبول "لو جيهريج" Lou Gehrig عانى منه. وكثيرون في لبنان وفي غيره من الدول يعانون منه مع فارق أن من يصابون به هنا، في بلادنا، يصبحون طيّ النسيان الى أن يهلكوا. هذا المرض يتزايد في العالم، ليس بحجم كوفيد 19 طبعاً، لكنه ينتشر وله أسبابه. وهو كما كوفيد 19 يؤدي الى مشاكل في الجهاز التنفسي أيضا. الدكتور جميل زغيب، مؤسس جمعية ALS كان مصابا به. هو مرض يتفاقم ويتفاقم ويظل يتفاقم الى أن يقضي على صاحبه. وإذا كان الموت في نهاية المطاف حتمياً فهل يُسمح أن يموت المرء المصاب به ألف مرة ومرة نفسياً قبل أن تحين وفاته. الشقيقات الثلاث يمتن يومياً به، بالكآبة التي يعززها المرض فيهنّ، ويحتجن الى مساعدة ليصمدنَ ويمرّرنَ هذا الوقت بأقل آلام نفسية ممكنة. هؤلاء يحتجنَ الى أدوية تقلل من تطور المرض تتضمن جرعات من الفيتامينات المنشطة للعضلات والأعصاب لتقويتها وتحفيزها لكن الشقيقات الثلاث يبلعنَ بدل الفيتامينات ريقهنّ حرقة وخوفاً وألماً. ويحتاج المصابون والمصابات بهذا المرض الى علاج طبيعي لتقوية العضلات وتحفيز الأعصاب لكن الشقيقات الثلاث اللواتي تزوّجنَ وطلّقن يحصلنَ على النبذ بدل العلاج الطبيعي وكأن النبذ هو علاج عالمنا. والمصابون يحتاجون أيضا الى أدوية مسكنة للآلام للتخفيف من آلام الشد والضمور العضلي لكن الشقيقات الثلاث يعانين من الآلام أضعافَ أضعافٍ وواحدة منهن ممنوع عليها رؤية أولادها وكأنها مسخ، ممنوع الإقتراب منها، وكأنها ممسوسة بمرض ينقل عدوى كما السلّ. غريبٌ هو حقاً عالمنا الذي لا يلتفت الى بيت ملؤه كل هذا الألم.


يتسلّل ببطء



مرض الشقيقات الثلاث هو اقسى أنواع أمراض الأعصاب الحركية وهو وراثي بنسبة 10 في المئة وهنّ، على ما يبدو، من هذه النسبة. هذا نصيبهنّ. لكن هل يجوز أن يتركنَ لحالهنّ على أن هذا هو النصيب؟ والدتهنّ لا تريد ان تشحذ عليهن لكن أليس في هذا البلد (الوطن) من ينتبه الى حال عباده وأحوالهم ؟ الوجع في هذا البلد كثير لكن هناك من هم/ هنّ، في قمة الوجع. ويريدون، أقل ما يريدون، بعض الدواء وكثيراً من الرأفة. فهل هناك من يرأف؟ هل هناك من يدق عليهم الباب ويقول لهم/ لهن: نحن الدولة وأنتم /أنتن أولادنا؟

هذه العائلة عرضت، في لحظة ما بين الغيبوبة والحقيقة، حالها، مشكلتها، معاناتها وعادت وقررت أن تسكت. قررت أن تصمت لأنها ليست مقتنعة بأن هناك من يسمع. قضية هذه العائلة الصيداوية باتت معلنة فلننتظر معها من يقول لها: لست وحدك.



قبل أن تختفي التعابير


حالهنّ حال

يبدأ هذا الشكل من المرض بالشعور بالضعف التدريجي الذي يصيب غالبا اليدين ثم القدمين والفم والحلق الى أن تضمحل قوة كل العضلات ووحده الإحساس يبقى حياً أما العضلات فتتيبّس، ما يؤدي الى ارتخاء الأطراف ويصبح التحكم حتى بتعابير الوجه محالاً. فلا تعود المرأة قادرة لا على الإبتسام ولا حتى على التعبير عن الحزن. تصبح الإستجابة العاطفية مستحيلة. ويأتي يوم لا تعود قادرة فيه حتى على البلع وقد تختنق حتى بالمياه والحساء. وهذا ما يؤدي الى تسرب المأكولات الى الرئتين ما يزيد من خطر الإصابة بالإلتهاب الرئوي. ويصبح صوت المصاب أو المصابة مبحوحاً وكأنه خارج من الأنف.


MISS 3