عيسى مخلوف

زياد خدّاش وحكايته الفلسطينيّة

22 تموز 2023

02 : 00

التقيتُ الكاتب الفلسطيني زياد خدّاش، أوّل مرّة، في مدينة وجدة المغربيّة، في إطار المعرض المغاربي للكتاب، في ندوة عنوانها «الكتابة ضدّ الجدران»، وسمعته يتحدّث آنذاك عن جدار الفصل العنصري. ثمّ التقينا في لقاء عابر في بيروت، أمام بحرها الخالد، ودائماً أتابع حكاياته وأخباره مع تلامذته في البلد المحتلّ، فهو يدرّس الكتابة الإبداعيّة في مدارس رام الله بصيغة هي النقيض للتعليم التقليدي السائد، وشعاره: «لا سعادة في المدرسة خارج الجلسة الحرّة، والكتاب غير المقرَّر، والنافذة المفتوحة والشجرة الصديقة». المقصود، هنا، هو التعليم لا الحفظ الببَّغائي، ولا العِلم الخالي من أصول العِلم والذي يُعمِّق الجهل، بل ذلك الذي يفتح الآفاق ودروب المستقبل، ويساعد الطالب على اكتشاف نفسه والآخر، ويحوّل المدرسة من سجن مُعتم إلى فضاء حُرّ يكتشف فيه الطلبة أنفسهم وطاقاتهم الحيّة. زياد خدّاش هو الطفل الكبير بين الأطفال يسبقهم إلى اللعب والرقص والضحك. يُحبِّبهم بثقافة التجريب والسؤال، لا الانغلاق داخل إجابات جاهزة ومحنَّطة منذ أبد الدهر.

عرفتُ زياد خدّاش أيضاً في تجربته الأدبيّة، من خلال قصصه القصيرة. في كتابه «أنف ليلى مراد»، يتناول فترات مهمّة من الحياة الفلسطينيّة، سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، من عشرينات القرن الماضي إلى خمسيناته. قصص اتّخذت شكلَ مقالات نُشرت في النصف الأوّل من القرن الماضي، في «جريدة فلسطين اليافاويّة». هكذا يزواج المؤلّف، منذ البداية، بين الماضي والحاضر، بين الواقع والمُتَخيَّل. ولقد بدت هذه القصص مرآةً لذاكرة، ولمُدُن كانت مزدهرة، كَيَافا وحيفا والقدس. تواكب النصَّ السرديّ رسومٌ تحمل توقيع الفنّانة الفلسطينيّة رانيا عامودي، وهي تتميّز بخطوطها وألوانها الشفيفة، وبما يجعلها أشبه بمنمنمات يدخل في تأليفها التَصَوُّر الذي يقوم عليه «الكولاج»، إضافة إلى عناصر متنوّعة. هذه الرسوم موصولة بالقصص، فهي تدلّ على المكان وأهله، وكذلك على أشياء الحياة اليوميّة التي، إن رحلَ أصحابها، تبقى هي ماثلة للعيان، شاهدة على نمط عيش وعلى حياة وُجدَت قبل أن يبدأ الغزو.

كتاب «أنف ليلى مراد» كتابة ضدّ النسيان، تنهل من الذاكرة ومن المنسيِّ في الذاكرة، لكنَّ المنسيَّ جَمرٌ لا يزال يتنفَّس تحت الرماد. وها هو يظهر أمامنا الآن في قصص توخَّت التأريخ الأدبيّ لسيرة بلد سعى المحتلّ إلى طمس خصوصيّته وتحريف تاريخه. في هذا السياق، نتعرّف إلى وجود حياة ثقافيّة سبقت الاحتلال وتمثّل جزءاً مهمّاً من نسيج المكان، وقد تجسّدت في بناء المسارح وصالات السينما، وفي حضور كتّاب وشعراء وفنّانين، ومنهم من جاء إلى هذه البقعة من الأرض التي كانت قد عرفت التنظيم المدنيّ والعمران. في موازاة ذلك، وفي إطار المرحلة السابقة لإعلان دولة إسرائيل، يلتفت الكاتب إلى المواجهات التي دارت بين الفلسطينيين والبريطانيين أثناء فترة الاستعمار، من جهة، ومن جهة ثانية، بينهم وبين الصهاينة، وسقوط شهداء منذ ذلك الزمن. وهذا ما نتبيّنه في قصّة «مقاتل برتقالي جريح»: «قرب نهر العوجا اشـتبكت، وأصدقائي مع دورية إنجليزية، أمطرناها بالرصاص، سـقط بعض جنودها، حين فرغـت بنادقنا مــن الرصاص، رجعنا إلى بيارة قريبـة، اختبأنا عـدّة سـاعات، وصلت تعزيـزات مـن الجيـش البريطاني، حاصـروا البيارة، وأطلقـوا النار علينا، أُستشهد رفاقي، وبقيتُ أنا جريحاً، أزحف على قدم واحدة». غير أنّ هذا الجانب التوثيقي، وبالأسلوب الذي اعتمد عليه زياد خدّاش، لم يُفقد الكتاب خصوصيّته الجماليّة، وحسّه الساخر، وحكايات تقترب من «الواقعيّة السحريّة»، كما في قصّة «طفلة في علبة شوكولاتة». أمّا عنوان الكتاب فيأتي من قصّة تحمل العنوان نفسه، وفيها أنّ «زوجتي أحلام شقراء وخبيرة في صناعة حلوى الحلبة، وتقول إنّها تعلّمت على يد جدّتهــا مــريم التــي تنحـدر مــن قريــة إجـزم، وعليَّ أن أعترف هنــا أنّنــي تزوّجتهــا لسـببين، الأول: أنّ أنفهــا يشبه أنف ليلــى مـراد التــي أعبدها، والثاني أنّهــا ماهــرة في صناعــة الحلبة التــي أعشقها بجنون».

تحضر المرأة الفلسطينيّة في هذا الكتاب، من خلال إقبالها على الكتابة، وكذلك من خلال دورها النضاليّ. من الأسماء التي يذكرها المؤلّف: ساذج نصّار، المناضلة الفلسطينيّة التي «اعتقلها البريطانيـــّون وسجنوها عاماً كاملاً في سـجن في بيت لحم بتهمة التحريض ضدّ الانتـداب والصهيونية». النضال، بالنسبة إلى هذه المرأة، يمرّ عبر العِلم أيضاً وأوّلًا. من هنا جاءت دعوتها إلى التعليم، لأنها تدرك أنّ الجهل احتلال أيضاً، والتغلّب عليه شرط ضروريّ للتغلّب على أيّ احتلال آخر. وجاء على لسانها: «صدمــة المجتمع دفعـة واحدة مغامرة لـن تنجح، كل هـذه الطبقـات مـن الجهـل لـن تسـقط منهـا ذرّة من دون ذكائنا وحكمتنا نحن النسـاء القويّات. نبـدأ بصدمـات صغيـرة، ثـم نتوسّع، حتى نطيح بالصخرة الكبيرة التي اسمها الجهــل».

زياد خدّاش، ابن المخيّمات الفلسطينيّة والمعاناة، يلتفت إلى ماضي فلسطين وهو يتطلّع إلى مستقبلها. كتابه رسالة مفتوحة على الأمل، هو الذي يعرف أنّ اليأس أقوى حلفاء التطرُّف.


MISS 3