سعيد غريّب

إعلامٌ خالٍ من الصحافة

26 تموز 2023

02 : 00

لم يعد غريباً على الرأي العام، لا بل بات متداولاً أنّ بين «بعض أهل الاعلام» والسياسيين أصحاب الثروات علاقة متجذّرة، مساحتها المشتركة المصالح والجيوب، ما يطرح تساؤلات في بلادنا حول رسالة مهنة الصحافة كسلطة رابعة مستقلة، وحول الدور المنوط بها في زمن الازمات الخانقة، سواء كانت سياسية أو مالية أو اقتصادية أو اجتماعية.

من نافل القول إنّ الصحافة، في مفهومها المهني الحقيقي، تشكّل ركناً أساسيّاً في أنظمة العالم المتحضّر، حيث يتعاطى السياسيون معها كحاجة ماسّة، تسهم في انتظام آليّات العمل العام ومساحاته. أمّا في لبنان، فالآية تكاد تكون معكوسة، حيث يتعاطى «صحافيون» مع السياسيين كحاجة ماسّة لتأمين استمرارهم وازدهارهم، ضمن عجلة المنظومة السياسية والمالية القائمة. لسنا هنا في معرض طرح اشكالية العلاقة القائمة بين الصحافة والسلطة السياسية والمالية، فالموضوع يحتاج إلى أكثر من مقالة ومن مقاربة، لكننا نكتفي ببعض المؤشّرات التي تنذر بالمخاطر على المهنة وأبنائها. وتتمثّل أولى المخاوف باستدامة العمل بحدّ ذاته، ففي العالم المستقرّ يؤدي الصحافي عمله باحثاً عن الخبر ومستقصياً خلفياته ومتطلّعاً إلى غد أفضل لمجتمعه وبيئته.

أمّا في لبنان، فيعود «الصحافي النقي» من عمله خائفاً على مؤسسة تعمل اليوم وقد لا تعمل غداً، وإن عملت فإنّه لا ضامن له بالاستدامة الفعلية فيها. وما الزميل الراحل نصري عكاوي الذي قضى انتحاراً منذ عدة سنوات الّا المثال الحي عن هذا القلق. أما الخطر الثاني فيتجلّى في استقالة بعض أبناء المهنة من دورهم المفترض في التقييم والمحاسبة.

وهو دور مطلوب لا لمجرد الاثارة أو الاستغلال انما للإسهام في تقويم الأداء، في كل ما يتعلق بالشأن العام، وذلك من طريق اعتماد المقاربة العلمية الدقيقة في صوغ الأخبار والمواقف حول السياسة والمال والاقتصاد، وفي نشر المعرفة والتوعية حول الآفات الفاتكة بمجتمعنا.

فلم يعد مقبولاً رصف كلمات المحاضرة بالأخلاق، في حين أنّ التغطية على من يقومون بالسوء أو يتغاضون عنه قائمة. ولم يعد مسموحاً أن ينادي العالم كله بحقوق الانسان والرفق بالحيوان، فيما انساننا يرزح تحت أثقال لا تحتمل باحثاً عن علم وعمل ودواء، وفيما يبتلي لبنان بممارسات لم نعهدها من قبل على المستوى الاجتماعي، من متاجرة بالبشر إلى عمليات عنف مجنون تصيب البشر والحجر والحيوان على حد سواء، وصولاً إلى اغتصاب بالجملة لأطفال أبرياء وفتيات ضعيفات. ويبقى أنّ الخطر الثالث يكمن في انحراف صناعة الكلمة نحو الرخص والاستسهال والفجور في ظل انفلات وسائل التواصل الاجتماعي وغياب المرجعيات المهنية عن تصحيح الأداء، بدلاً من الانجرار خلف موجة التراجع المهني والاخلاقي، ومن أخطر مساوئها عمليات التسويق المخيفة.

في ظل هشاشة النفوس والقلق على المصير والممتلكات، كيف تسوّق الأخبار المقلقة في لبنان مع اقتراب الساعة الصفر من انتهاء ولاية «مترنيخ» لبنان الثلاثينية ونوابه الأربعة؟ على سبيل المثال لا الحصر، يطالعك صباحاً عنوان يقول: «الصحافي فلان» يكشف المستور، جازماً أنّ الدولار سيحلّق عالياً جداً بعد فراغ الحاكمية من سلطانها.

وربّ سائل يسأل هنا: من هذا العالم في المال والغيب ليجزم وليكشف المستور؟ ومن وراء كشف المستور ولم؟ ومن هو الساتر أساساً؟ ولربّ مجيب يسأل: هل هذا الصنف من الاعلاميين يعرف أنّ الناس تعرف أنّ بعض الاعلام هو جزء أساسي من لعبة المنظومة القائمة.

ويطلّ عليك صحافي آخر ليذهلك بتفصيل ما دار من حديث بين رئيسي دولتين في جلسة مغلقة، وكأنه كان متمركزاً تحت طاولتهما. أما البرامج السياسية المنفلشة على كل وسائل الاعلام فحدث عنها ولا حرج! ضاعت الطاسة والناس لم تعد تميّز بين المحاور والضيف، ولا عادت تعرف من هو الضيف ومن هو المحاور. «حمامات مقطوعة مياهها» والنتيجة لا شيء! لا المحاور يسأل ولا الضيف يجيب. وفي تطور أخير صاعق، انتقلت هذه البرامج من مصاف الاستعراض لتتحول بلحظة إلى حلبات مصارعة.

ولو طلبت من chatgpt وصف ما حصل في «صار الوقت» الأسبوع الفائت لأعلن عجزه واستسلم وقال «ما صار الوقت بعد تنصير بلد بيحترم حالو». سياسيون وماليون واعلاميون في دوامة الانهيار الشامل، وسط عالم غارق في ثقافة الاستهلاك، وبلد غارق في انعدام القيم. فالعالم تغزوه ثقافة الربح بأثمان»مشروعة»، ولبنان تغزوه ثقافة الظهور والوجاهة بأي ثمن، سياسيوه وبعض اعلامه يعلكون ويحرّكون أيديهم، ويرصفون الكلمات، ولا يتحدثون مرّة لغة الصدق، وهم أنفسهم هتّافة هذا الرئيس أو الزعيم في الأمس والمهلّلون لسقوطه اليوم أو غداً.

يدعون الخصوم إلى المبارزة ويجيّشون الجماهير، ليجبروا المتناحرين بعدها على أن يحبوا اليوم من جرّوهم على كرههم أمس. إنّه زمن المحن فكيف نعالجه؟ لعل في تعاطي اليابانيين مع كارثة مفاعل فوكوشيما النووي التي تطورت بعد زلزال 11 آذار الكبير العام 2011، بعض العبر لنا. حينها تمسّك الشعب الياباني بفضائل الهدوء والاحترام والنظام والقدرة والرحمة والرفق والضمير والتضحية من أجل الخير العام. وحيث الاعلام، وهنا بيت القصيد، لم يكن مكان للتفاهة بل لتقارير هادئة.


MISS 3