سامويل شاراب

واشنطن تحتاج إلى إنهاء اللعبة في أوكرانيا... حرب لا فائز فيها

31 تموز 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

جندي أمام جدار علّق عليه صور الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن أوكرانيا | كييف، ٢٠٢٣

كان الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022 لحظة محورية لتوضيح الظروف القائمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها. كُلّف هؤلاء بمهمّة عاجلة تفرض عليهم أن يساعدوا أوكرانيا التي تواجه العدوان الروسي ويعاقبوا موسكو على تجاوزاتها. كان الرد الغربي واضحاً منذ البداية، لكن بقي الهدف من هذه الحرب غامضاً.

لطالما كان الغموض جزءاً من مزايا السياسة الأميركية، فقد أعلن مستشار الأمن القومي، جايك ساليفان، في حزيران 2022: «نحن امتنعنا عن توضيح تفاصيل نهاية اللعبة التي نفضّلها... وركّزنا في المقابل على ما نستطيع فعله اليوم، وغداً، وفي الأسبوع المقبل، لتقوية أوكرانيا قدر الإمكان، في ساحة المعركة أولاً وصولاً إلى طاولة المفاوضات في نهاية المطاف». بدت هذه المقاربة منطقية في الأشهر الأولى من الصراع.

لكن لم يكن مسار الحرب واضحاً بأي شكل في تلك المرحلة. كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لا يزال يتكلم عن استعداده لمقابلة نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ولم يكن الغرب قد بدأ بتزويد كييف بأنظمة صواريخ أرضية متطورة أو دبابات وصواريخ طويلة المدى، كما يفعل راهناً. في الوقت نفسه، يصعب دوماً أن تتكلم الولايات المتحدة عن الهدف من حربٍ لا تشارك فيها قواتها العسكرية. الأوكرانيون هم الذين يموتون من أجل بلدهم، لذا يحق لهم أن يحددوا موعد وقف القتال بغض النظر عن رغبة واشنطن.

لكن حان الوقت الآن كي تتطوّر الولايات المتحدة رؤية واضحة حول نهاية الحرب. لقد أوضح القتال القائم منذ 15 شهراً أن الطرفَين يعجزان عن تحقيق انتصار عسكري حاسم، حتى لو تلقى كلاهما مساعدات خارجية. وبغض النظر عن حجم الأراضي التي تستطيع أوكرانيا تحريرها، ستتابع روسيا طرح تهديد دائم على كييف. في غضون ذلك، يستطيع الجيش الأوكراني أن يُهدد جميع المناطق التي تحتلها القوات الروسية وأن يفرض تكاليف باهظة في مواقع عسكرية ومدنية داخل روسيا بحد ذاتها.

هذه العوامل كلها قد تطلق صراعاً كارثياً يستمر لسنوات من دون أن يعطي نتائج حاسمة. لهذا السبب، سيضطر الأميركيون وحلفاؤهم لتحديد استراتيجيتهم المستقبلية. يمكنهم أن يبدأوا بمحاولة توجيه الحرب نحو المفاوضات خلال الأشهر المقبلة، أو يمكنهم أن يتخذوا هذه الخطوة بعد سنوات من الآن. إذا قرروا الانتظار، ستبقى أسس الصراع على حالها، لكن ستتضاعف في المقابل تكاليف الحرب البشرية والمادية. للتعامل مع أخطر أزمة دولية منذ جيل كامل، تستلزم أي استراتيجية فاعلة أن يبدأ الأميركيون وحلفاؤهم بتغيير المسائل التي تشغلهم ويسهّلوا بلوغ المرحلة الأخيرة من الصراع.

كلفة الإنتظار

سيكون تحديد التدابير المناسبة لضمان استمرار أي اتفاق لوقف إطلاق النار هدفاً شائكاً لكنه بالغ الأهمية، ويُفترض أن تؤكد واشنطن استعدادها لمساعدة كييف في هذه الجهود. يجب أن تبدأ أي إجراءات جدّية فوراً لتجنب ما يسمّيه المسؤولون الأوكرانيون، بما في ذلك زيلينسكي، «مينسك 3» (في إشارة إلى اتفاقَين فاشلَين لوقف إطلاق النار تم التوصل إليهما مع روسيا في عاصمة بيلاروسيا، في العامين 2014 و2015، بعد عمليات الغزو السابقة). عجز هذان الاتفاقان عن إنهاء العنف بشكلٍ دائم ولم يشملا أي آليات فاعلة لضمان امتثال الطرفَين.

استناداً إلى بيانات عن الصراعات القائمة بين العامين 1946 و1997، أثبتت عالِمة السياسة فيرجينيا بيج فورتنا أن الاتفاقيات القوية التي تنظّم المناطق منزوعة السلاح، وتشمل ضمانات من أطراف ثالثة، وتضمن حفظ السلام أو تنشئ لجاناً مشتركة لحل النزاعات، وتتضمن مصطلحات واضحة، قد تُمهّد لاستمرار وقف إطلاق النار. هذه الآليات ترسّخ مبادئ المعاملة بالمثل وأنظمة الردع التي تسمح لألدّ الأعداء بإرساء السلام من دون حل خلافاتهم الأساسية. ونظراً إلى صعوبة تعديل تلك الآليات كي تتماشى مع حرب أوكرانيا، يجب أن تسعى الحكومات إلى تطويرها في أسرع وقت.

قد تكون أي هدنة لإنهاء هذه الحرب عبارة عن اتفاق ثنائي، لكن يستطيع الأميركيون وحلفاؤهم أن يساعدوا أوكرانيا في استراتيجية التفاوض التي تعتمدها. كذلك، يجب أن يفكروا مثلاً بالتدابير المناسبة لتقديم الحوافز إلى مختلف الأطراف وتشجيعها على التفاوض ومنع انهيار اتفاقيات وقف إطلاق النار. يكشف البحث الذي أجرته فورتنا أن الالتزامات الأمنية تجاه أوكرانيا يُفترض أن تكون جزءاً من هذه المعادلة، علماً أنها تضمن ألا تواجه كييف روسيا وحدها إذا قررت موسكو مهاجمتها مجدداً. في معظم الحالات، ينحصر النقاش المرتبط بالالتزامات الأمنية بانتساب أوكرانيا إلى الناتو. ستستفيد أوكرانيا، بعد انضمامها إلى الحلف، من المادة الخامسة من معاهدة الناتو التأسيسية، فهي تفرض على الأعضاء أن يعتبروا أي هجوم مسلّح ضد واحد منهم اعتداءً عليهم كلهم. لكن لا تقتصر عضوية الناتو على المادة الخامسة. من وجهة نظر موسكو، يعني الانتساب إلى الحلف تحويل أوكرانيا إلى منصة تستعملها الولايات المتحدة لنشر قواتها وقدراتها الخاصة. حتى لو أجمع الحلفاء إذاً على ضم كييف إلى الحلف، قد لا تحبذ روسيا السلام ويقرر بوتين متابعة القتال إذا حصلت أوكرانيا على ضمانات أمنية بعد انتسابها إلى الناتو.

قد تحصل كييف على ضمانات تسمح لها بترسيخ أمنها، وتُشجّع الاستثمارات في القطاع الخاص من الاقتصاد الأوكراني، وتقوي نظام الردع للتصدي لأي عدوان روسي مستقبلي. تدرك موسكو اليوم أن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً إذا أقدمت على مهاجمة أوكرانيا، لكنّ هذا النوع من المواقف قد يجعل الكرملين يتردد في التحرك، من دون أن يزيد احتمال انتشار قواعد أميركية جديدة على الحدود الروسية. تحتاج واشنطن طبعاً إلى التأكد من استمرارية اتفاق وقف إطلاق النار منعاً لتكرار التحديات المطروحة على التزاماتها في هذا الملف. في مطلق الأحوال، يُفترض أن يبقى تجنب الحرب مع روسيا على رأس الأولويات.

في مرحلة معيّنة، ستحتاج أوكرانيا على الأرجح إلى حوافز أخرى، منها مساعدات مكثفة لإعادة إعمار البلد، وتدابير مناسبة لمحاسبة روسيا، ومساعدات عسكرية متواصلة في زمن السلم لمساعدة كييف على إنشاء نظام ردع جدير بالثقة. في غضون ذلك، يجب أن يُلحِق الأميركيون وحلفاؤهم الضغوط القسرية التي يمارسونها على روسيا بجهودٍ تهدف إلى جعل السلام خياراً جاذباً، بما في ذلك رفع العقوبات المشروط الذي يُمهّد لعقد تسوية مناسبة، شرط تحديد بنود احتياطية لتطبيقها في حال عدم الامتثال. أخيراً، يُفترض أن يبدي الغرب استعداده للتحاور حول مسائل أمنية أوروبية أخرى منعاً لنشوء أزمات من هذا النوع مع روسيا مستقبلاً.

إنــــه وقــــت الــــتــــفــــاوض

لتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس خلال الأشهر المقبلة، تقضي الخطوة الأولى ببذل الجهود اللازمة في الحكومة الأميركية لتطوير مسار دبلوماسي مناسب. كُلّف فرع جديد من القيادة العسكرية الأميركية بتقديم المساعدات والتدريبات إلى أوكرانيا، بقيادة جنرال برتبة ثلاث نجوم وفريق مؤلف من 300 عنصر. لكن لا تشمل الحكومة الأميركية أي مسؤول يكرّس كامل وقته لدبلوماسية الصراعات. يُفترض أن يعيّن الرئيس الأميركي جو بايدن مسؤولاً من هذا النوع، أو ربما مبعوثاً رئاسياً خاصاً للتواصل مع المسؤولين خارج وزارات الخارجية التي تم تهميشها في هذه الأزمة في معظم العواصم المؤثرة. في المرحلة اللاحقة، يُفترض أن تطلق الولايات المتحدة نقاشات غير رسمية مع أوكرانيا وبين حلفائها في مجموعة السبع وحلف الناتو بشأن نهاية الصراع.

في الوقت نفسه، يجب أن تفكر واشنطن بإنشاء قناة تواصل منتظمة بشأن الحرب، على أن تشمل أوكرانيا وحلفاء الولايات المتحدة وروسيا. لن تهدف هذه القناة في البداية إلى فرض وقف إطلاق النار، بل ستسمح للمشاركين بمتابعة التواصل في ما بينهم بدل تنظيم اجتماعات عابرة، بما يشبه مجموعة الاتصال التي نشأت خلال حروب البلقان، فقد اعتادت مجموعة غير رسمية من ممثلي أهم البلدان والمؤسسات الدولية حينها على الاجتماع بانتظام. يجب أن تبدأ هذه النقاشات بعيداً عن أنظار الرأي العام، على غرار التواصل الأولي بين الولايات المتحدة وإيران بشأن الاتفاق النووي الذي وقّع عليه الطرفان في العام 2015.

قد تعجز هذه الجهود كلها عن التوصل إلى الاتفاق المنشود. تبدو فرص النجاح ضئيلة، وحتى لو أنتجت المفاوضات اتفاقاً معيّناً، لن تكون جميع الأطراف راضية بالكامل. لم تُعتبر الهدنة الكورية مثلاً انتصاراً للسياسة الخارجية الأميركية عند توقيعها، فقد كان الرأي العام الأميركي معتاداً على تحقيق انتصارات مطلقة بدل خوض حروب دموية لا تصل إلى نهاية حاسمة. لكن على مر سبعين سنة منذ ذلك الحين، لم تندلع أي حرب أخرى في شبه الجزيرة. في غضون ذلك، تخلصت كوريا الجنوبية من مظاهر الدمار التي طغت على البلد في فترة الخمسينات، وتحولت إلى قوة اقتصادية بحد ذاتها ثم أصبحت ديمقراطية ناجحة. سيكون تحوّل أوكرانيا بعد الحرب إلى دولة ديمقراطية ومزدهرة تستفيد من التزام غربي قوي بأمنها شكلاً حقيقياً من الانتصار الاستراتيجي.

قد تكون النهاية التي ترتكز على هدنة معيّنة كفيلة بحرمان أوكرانيا من جميع أراضيها، بشكلٍ مؤقّت على الأقل. لكن سيحصل البلد على فرصة التعافي اقتصادياً، وستنتهي مظاهر الموت والدمار. قد تبقى أوكرانيا عالقة في صراع مع روسيا في المناطق التي تحتلها موسكو، لكن سينحصر ذلك الصراع في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية حيث تتفوق أوكرانيا بفضل الدعم الغربي. يثبت نجاح إعادة توحيد ألمانيا في العام 1990 أن التركيز على عناصر غير عسكرية من المنافسة قد يعطي النتائج المنشودة. في غضون ذلك، لن تنهي أي هدنة بين روسيا وأوكرانيا المواجهة القائمة بين الغرب وروسيا، لكن ستتراجع مخاطر اندلاع اشتباك عسكري مباشر وتنحسر معها عواقب الحرب على الساحة العالمية أيضاً.

قد يُصِرّ عدد كبير من المحللين على ضرورة تحديد مصير هذه الحرب في ساحة المعركة، لكن تتجاهل هذه الرؤية حقيقة أخرى مفادها أن الوقائع البنيوية للحرب لن تتغير على الأرجح حتى لو تبدّلت الخطوط الأمامية، وهي نتيجة غير مضمونة بأي شكل. يُفترض أن يتمكن الأميركيون وحلفاؤهم إذاً من مساعدة أوكرانيا في ساحة المعركة وعلى طاولة المفاوضات في آن. حان الوقت لبدء هذه المرحلة من الجهود.


MISS 3