في شهر آذار الماضي، عندما أنهى الرئيس الصيني شي جين بينغ زيارته إلى موسكو، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على باب الكرملين لتوديع صديقه. قال شي لنظيره الروسي في تلك اللحظة: «تحصل تغيّرات واضحة في الوقت الراهن، وهي غير مسبوقة منذ مئة عام، وكلانا مسؤول عن تحريك تلك التغيرات». فابتسم بوتين ووافقه الرأي.
لم يكن ذلك الحوار رسمياً، لكنه ليس ارتجالياً أيضاً. سرعان ما أصبحت عبارة «تغيّرات غير مسبوقة منذ قرن» جزءاً من الشعارات التي يفضّلها شي منذ أن بدأ يستعملها في كانون الأول 2017. قد يبدو هذا الموقف عاماً، لكنه يعكس بكل وضوح رأي الصين اليوم بالنظام العالمي الناشئ أو الفوضى التي تطبعه. في ظل تنامي النفوذ الصيني، حاول صانعو السياسة والمحلّلون الغربيون تحديد شكل العالم الذي تفضّله الصين ونوع النظام العالمي الذي تريد بكين تأسيسه بقوّتها. لكن بدأت الظروف توضح أن الخبراء الاستراتيجيين الصينيين يسعون إلى الاستفادة من العالم بشكله الراهن أو بالشكل الذي سيصبح عليه قريباً، بدل محاولة تعديل النظام القائم أو استبداله بكيان مختلف.
فيما يسعى القادة وصانعو السياسة الغربيون بمعظمهم إلى حماية النظام الدولي المبني على قواعد محددة، أو حتى تحديث جزء من خصائصه الأساسية وإضافة أطراف أخرى إليه، يتكلم الخبراء الاستراتيجيون الصينيون على سعيهم إلى الصمود في عالمٍ يخلو من النظام. تظنّ القيادة الصينية أن الهندسة العالمية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية خسرت أهميتها وأن محاولات الحفاظ عليها ستكون عقيمة. بدل محاولة إنقاذ ذلك النظام، تستعد بكين للتعامل مع تداعيات فشله.
تتفق الصين والولايات المتحدة على انتهاء النظام الذي نشأ بعد الحرب الباردة، لكن يراهن كل بلد منهما على نظام مختلف في المراحل المقبلة. في واشنطن، يقال إن تجدّد المنافسة بين القوى العظمى يتطلّب إعادة إحياء التحالفات والمؤسسات التي تشكّل محور النظام الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية وساعد الولايات المتحدة على الفوز في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي. يهدف هذا النظام العالمي المستحدث إلى ضمّ معظم أجزاء العالم، تزامناً مع عزل الصين وعدد من أهم شركائها، بما في ذلك إيران، وكوريا الشمالية، وروسيا.
لكن تثق بكين بفشل جهود واشنطن. من وجهة نظر الخبراء الاستراتيجيين الصينيين، لا يتماشى بحث البلدان الأخرى عن السيادة والهوية مع ظهور كتل تشبه الكيانات الناشئة في حقبة الحرب الباردة، بل إن هذه المساعي قد تؤدي إلى نشوء عالم متعدد الأقطاب وأكثر انقساماً حيث تستطيع الصين إيجاد مكانها كقوة عظمى.
في نهاية المطاف، قد تكون رؤية بكين أدقّ من المنطق الأميركي وأكثر تماشياً مع طموحات الدول الأكثر اكتظاظاً بالسكان حول العالم. لن تنجح الاستراتيجية الأميركية إذا اقتصرت على محاولة تحديث نظام متهالك انطلاقاً من حنينها إلى استقرار حقبة غابرة. في المقابل، تستعدّ الصين لعالمٍ تشوبه الفوضى والانقسامات، وهو عالم بدأت معالمه تتّضح منذ الآن.
بدأت المنافسة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة تتوسّع. توقّع عدد كبير من المفكّرين الصينيين أن يؤدي انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن في العام 2020 إلى تحسين العلاقات مع بكين، لكن خاب أملهم في نهاية المطاف، إذ تبدو إدارة بايدن أكثر عدائية ممّا توقّعوا تجاه الصين. شبّه خبير اقتصادي صيني مرموق حملة الضغوط التي أطلقها بايدن ضد قطاع التكنولوجيا الصيني بتحركات الرئيس دونالد ترامب ضد إيران. كذلك، اعتبر محللون صينيون رغبة بايدن في تجميد النمو التكنولوجي الصيني للحفاظ على تفوّق الولايات المتحدة في هذا القطاع مشابهة لمساعي ترامب الرامية إلى كبح برنامج الأسلحة النووية في إيران. برأي الكثيرين في بكين، لا تريد واشنطن إلزام الصين بالقواعد المعمول بها بل تسعى إلى كبح نموّها.
لكنه انطباع خاطئ. أوضح الاتحاد الأوروبي وواشنطن أنهما لا ينويان إخراج الصين من الاقتصاد العالمي، ولا يريدان فصل اقتصادهما بالكامل عن الاقتصاد الصيني، بل إنهما يحرصان بكل بساطة على منع الشركات فيهما من تقاسم تقنيات حساسة مع بكين وتخفيف اتّكالهما على الواردات الصينية في قطاعات أساسية مثل الاتصالات، والبنية التحتية، والمواد الخام. لهذا السبب، زادت مواقف الحكومات الغربية حول «إعادة الإنتاج إلى البلدان الأصلية أو الدول الصديقة» في هذه المجالات، أو تنويع سلاسل الإمدادات على الأقل عبر تشجيع الشركات على إنتاج السلع في بلدان مثل بنغلادش، والهند، وماليزيا، وتايلاند.
ردّت بكين عبر طرح فكرة الاقتصاد المتشعّب. يتمحور نصف هذا الاقتصاد حول «الدوران الداخلي»، ما يعني أن تصبح الصين مكتفية ذاتياً على مستوى الاستهلاك، والتكنولوجيا، والتنظيمات. ويتعلق النصف الثاني بعقود انتقائية مع بقية دول العالم.
في الماضي، وجد الغرب صعوبة في إقناع الصين بتقبّل قواعده. أما اليوم، فتبدو الصين مصمّمة على جعل الآخرين يرضخون لقواعدها الخاصة، لذا قامت باستثمارات هائلة لرفع صوتها في هيئات دولية متنوّعة تُعنى بتحديد المعايير المعمول بها. في غضون ذلك، تستعمل بكين مبادرات «التنمية العالمية» و«الحزام والطريق» لتصدير نموذجها القائم على رأسمالية الدولة المدعومة والمعايير الصينية إلى أكبر عدد ممكن من الدول. كانت الصين تهدف في السابق إلى الاندماج مع السوق العالمية، لكن تغيّرت مقاربة الحزب الشيوعي الصيني غداة انهيار النظام الدولي في حقبة ما بعد الحرب الباردة وعودة الفوضى التي طبعت القرن التاسع عشر.
لهذا السبب، بذل الرئيس شي جينبينغ جهوداً فائقة لبلوغ أعلى مستويات الاكتفاء الذاتي. لكن يظن عدد كبير من المفكّرين الصينيين أن التغيرات الحاصلة في المواقف الصينية تجاه العولمة تنجم في معظمها عن التحديات الاقتصادية المحلية وتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة. في الماضي، كانت اليد العاملة الصينية الواسعة والشابة والرخيصة المحرّك الأساسي لنموّ البلد. لكن بدأ سكان الصين يتقدّمون في السن الآن، ويحتاج البلد إلى نموذج اقتصادي جديد يرتكز على تعزيز الاستهلاك. لكن تتطلب هذه العملية برأي خبير الاقتصاد جورج ماغنوس رفع الأجور وتطبيق إصلاحات بنيوية قد تزعزع ميزان القوى الاجتماعي الحساس في الصين. يتطلب تجديد النمو السكاني مثلاً تحديثات جوهرية لنظام الأمن الاجتماعي المتأخر في البلد، ولا بدّ من زيادة الضرائب لتحمّل كلفة هذه الخطوة، وهو قرار لا يحظى بشعبية واسعة. في غضون ذلك، يتطلّب تعزيز الابتكار تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وهي خطوة تتعارض مع توجهات الرئيس الصيني. بعبارة أخرى، يصعب تخيّل هذا النوع من التعديلات في الظروف الراهنة.
عـــــالـــــم مـــــنـــــقـــــســـــم؟
بين العامَين 1945 و1989، كان العالم يرتكز على جهود إنهاء الاستعمار والانقسام بين القوى الغربية والاتحاد السوفياتي. تفكّكت الإمبراطوريات إلى عشرات الدول بسبب حروب صغيرة في معظم الحالات. لكن رغم تبدّل خارطة العالم نتيجة إنهاء الاستعمار، بقيت المنافسة الإيديولوجية خلال الحرب الباردة القوة الأكثر تأثيراً. سارعت البلدان بمعظمها، بعد نيل استقلالها، إلى الاصطفاف مع الكتلة الديمقراطية أو الكتلة الشيوعية. وحتى البلدان التي لم ترغب في الاختيار بين الطرفَين حددت هويتها انطلاقاً من الحرب الباردة، فنشأت «حركة عدم الانحياز» في المرحلة اللاحقة.
تتّضح هاتان النزعتان اليوم، وتظنّ الولايات المتحدة أن ذلك التاريخ يكرّر نفسه فيما يحاول صانعو السياسة إعادة إحياء الاستراتيجية التي نجحت ضد الاتحاد السوفياتي، وهذا ما يدفعها إلى تقسيم العالم وتعبئة حلفائها. لكن تُخالفها بكين الرأي وتطبّق سياسات تناسب اقتناعها بأن العالم بدأ يدخل في حقبة تتفوّق فيها قوة الإرادة والاصطفافات المتعدّدة على الصراعات الإيديولوجية.
قد تكون حسابات بكين أكثر دقة لأن الحقبة الراهنة تختلف عن الحرب الباردة على ثلاثة مستويات أساسية. أولاً، تبدو النزعات الإيديولوجية اليوم أكثر ضعفاً بكثير. بعد العام 1945، طرحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي رؤية مستقبلية تفاؤلية ومقنعة كانت كفيلة بجذب النُخَب والعمّال حول العالم. لكن لا تحمل الصين المعاصرة رسالة مماثلة، وتلاشت الرؤية الأميركية التقليدية عن الديمقراطية الليبرالية بدرجة كبيرة بسبب حرب العراق، والأزمة المالية العالمية في العام 2008، وعهد الرئيس دونالد ترامب. هذه العوامل كلها أضعفت نجاح الولايات المتحدة وسخاءها ومصداقيتها. وبدل طرح أفكار إيديولوجية مختلفة ومتباينة، تزداد نقاط التشابه بين الصين والولايات المتحدة في مسائل متنوعة، بدءاً من السياسة الصناعية والتجارة وصولاً إلى التكنولوجيا والسياسة الخارجية. لا يمكن أن تتشكل كتل مشابهة لتلك التي سادت في حقبة الحرب الباردة من دون رسائل إيديولوجية قادرة على إنشاء تحالفات دولية.
ثانياً، لا تتمتع بكين وواشنطن اليوم بالهيمنة العالمية التي فرضها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بعد العام 1945. في العام 1950، شكّل الأميركيون، وأبرز حلفائهم (دول الناتو، أستراليا، اليابان)، والعالم الشيوعي (الاتحاد السوفياتي، الصين، الكتلة الشرقية)، حوالى 88% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لكن تشكّل هذه الدول مُجتمعةً اليوم 57% فقط من ذلك الناتج. كانت نفقات الدفاع في دول عدم الانحياز ضئيلة في فترة الستينات (حوالى 1% من المجموع العالمي)، لكنها تصل اليوم إلى 15% وتشهد نمواً سريعاً.
ثالثاً، أصبح العالم الآن مترابطاً جداً. في بداية الحرب الباردة، كانت الروابط الاقتصادية بين الغرب والبلدان الواقعة وراء الستار الحديدي محدودة، لكنّ الوضع الراهن مختلف بالكامل. بلغت التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حوالى 1% من مجموع العمليات التجارية في البلدين خلال السبعينات والثمانينات، لكنّ تبادلاتها التجارية مع الصين اليوم تشكّل 16% من الميزان التجاري الإجمالي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. هذا الترابط يمنع اصطفاف فريق مستقرّ من الكتل، بما يشبه ما حصل خلال الحرب الباردة. ستنتشر على الأرجح اضطرابات دائمة وولاءات متبدّلة.
قام قادة الصين برهان استراتيجي جريء عبر الاستعداد لعالمٍ منقسم. يظنّ الحزب الشيوعي الصيني أن العالم يتّجه نحو نظام ما بعد الحقبة الغربية، لا بسبب تفكك الغرب، بل لأن ترسيخ قوة الغرب أبعد عدداً كبيراً من البلدان الأخرى عن هذا المحور. في زمن التغيرات المتلاحقة اليوم، قد تصبح بكين شريكة أكثر جاذبية من واشنطن، نظراً إلى استعدادها المعلن للسماح لبلدان أخرى باستعراض قوتها. إذا كان العالم يستعدّ فعلاً لدخول مرحلة من الفوضى، فقد تكون الصين الأكثر قدرة على تحقيق الازدهار في هذه الظروف.