عيسى مخلوف

وقفة من باريس

تغيير أنماط الحياة من أجل البقاء

25 نيسان 2020

04 : 20

تفشّي وباء كورونا دفع إلى الواجهة من جديد موضوع البيئة الذي تعاطت معه دول العالم، وخصوصاً الدول العظمى، بكثير من الاستهتار واللامبالاة من دون الأخذ في الاعتبار مصير الأرض ومن عليها، ومن دون الاستماع إلى تحذيرات العلماء. وقد ربط عدد من هؤلاء بين الجائحة والتدهور البيئي، إضافة إلى الطريقة التي تعاطت بها الصين، وتالياً بقيّة الدول، مع الوباء، في المرحلة الأولى لاكتشافه.

في هذا السياق، ومع الالتفات إلى الكتب التي تُعنى بموضوع الإنسان والبيئة، أعاد البرنامج التلفزيوني الفرنسي، "المكتبة الكبرى"، بثّ حلقة سبق أن بُثَّت في العام 2017، وشارك فيها عدد من الكتّاب المهتمّين بهذا الموضوع، ومنهم الكاتب والمخرج ومُناصر البيئة الفرنسي سيريل دْيُونْ الذي ركّز في حديثه على المخاطر التي تتهدّد هذا الكوكب. وجاءت مواقفه خلاصة لما كان قد توسَّع به في كتابه "دليل صغير للمقاومة المعاصرة" الذي يستعرض فيه أحوال العالم وطُرق التصدّي للانهيار المحتوم في حال لم يحدث تغيُّر سريع في التعامل مع تلوُّث الماء والهواء والتربة، ومع ظاهرة الاحتباس الحراري وتغيُّر المناخ، وكذلك مع تدمير الغابات. ولوحظ مؤخّراً أنّ ثمّة من استغلّ الأزمة الراهنة ليتابع انقضاضه على غابة الأمازون إذ أنّ قطع الأشجار فيها زاد الشهر الماضي بنسبة 30 في المئة، بحسب "المعهد الوطني لأبحاث الفضاء" في البرازيل.

انتهاك البيئة بشكل غير مسبوق أفضى إلى كوارث بيئية منها: تآكل طبقة الأوزون وذوبان الجليد القطبي وتناقص أعداد النحل واختفاء ما يعادل ثمانين بالمئة من الحشرات في أوروبا وخمسين بالمئة من الحيوانات الفَقْريّة كالأسماك والطيور والثدييّات. وبات من المؤكّد أنً الاحتباس الحراري سيتضاعف، في العقود القليلة المقبلة، مع تضاعف المناطق التي تعاني من الجفاف والتصحُّر، ممّا سيسرّع ارتفاع مستوى سطح البحر ويجعل الحياة مستحيلة في قسم كبير من الأرض، فضلاً عمّا يمكن أن يؤدّي إليه ذلك من هجرات كبيرة ومجاعات وحروب.

لمواجهة تدمير النُّظُم البيئية، ومن أجل إنقاذ البشرية والأجناس الحيّة التي تتبدّد وتختفي يوماً بعد يوم، لا يُقدِّم دْيُونْ إجابات قاطعة، بل يقترح مبادرات على المستويين الفردي والعامّ، وأيضاً على المستوى السياسي، معتبراً أنّ السلوك الفردي في تعاملنا مع الماء، مثلاً، أمر مهمّ وضروري، لكنّه لا يكفي. فالاستهلاك اليومي للبشر محدود ولا يتجاوز نسبة 9 بالمئة، بينما 91 بالمئة من كمّيّة الماء تُخصّص للصناعة والزراعة، بطريقة يحدّدها النسق الاقتصادي الراهن.

إلى ذلك، دعا دْيُونْ إلى تشجيع الإنتاج في مصانع قريبة من أماكن الاستهلاك حتى لا يؤتى به من بعيد، تفادياً لتزايد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما دعا إلى تشجير الغابات التي دُمِّرت وتَرك فسحات في المدن من دون تغطيتها بالإسمنت لتستوعب الماء وتتفاعل مع المناخ، وإلى معالجة الأراضي المستنفدة المريضة واستحداث أساليب زراعية جديدة، فلا تعود الزراعة سبباً إضافياً في القضاء على الكثير من الأجناس الحيّة بسبب المبيدات وأنواع الأسمدة الكيماوية المستعملة.

لن تستقيم حماية البيئة من دون وضع حدّ لإجرام السياسات النيوليبيرالية التي سلّعت كلّ شيء، واستباحت الأرض وكائناتها ومواردها من أجل الربح فحسب، ومن دون أيّ اعتبار لأَنْسَنَة السياسة التي يقول عنها عالم الاجتماع إدغار موران إنها "الفنّ المتعثّر والأكثر جهلاً بالواقع والحياة والإنسان".لقد أكّد العلماء أنّ ظهور الأوبئة، الحيوانيّة المنشأ، ومن ضمنها وباء كورونا، غالباً ما يرتبط بالتغيُّرات البيئية الناتجة عن الأنشطة البشرية وتدمير الغابات وانتقال أصناف من الحيوانات إلى أمكنة غير أمكنتها الأصلية. من جانب آخر، يعبّر بعض المتتبّعين لأوضاع الصين عن خشيتهم من عودة أسواق الحيوانات الحيّة إلى ووهان، المنطقة التي خرج منها الوباء وانتشر في العالم أجمع. وكذلك من عودة التجارة غير المشروعة لبعض الحيوانات المحميّة التي تُستهلك لحومها بكثرة هناك، وفي مناطق كثيرة من آسـيا وأفريقيا، ومنهــا البنغولين والوطاويط المتعايشـة مع فيروســــاتها، بصورة طبيعيّة، منذ ملايين السنين.

ومنذ الآن، أي حتّى قبل اكتشاف اللقاح المطلوب للتخلّص من وباء كورونا، يحذّر العلماء من ظهور أوبئة جديدة إذا ما استمرّ تدمير النّظام البيئي على حاله، وإذا لم تولد ثقافة إنسانيّة جديدة تتصالح مع الطبيعة وتحافظ على عناصرها حفاظاً على وجود الإنسان نفسه.


MISS 3