تكشف نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة أن اليمين المتطرف في إسبانيا قد يصبح جزءاً أساسياً من الحكومة الاتحادية المقبلة. فيما يستعد رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، للانتخابات العامة المبكرة التي دعا إليها في 23 تموز، يبدو أن أكثر ما يشغله هو كيفية سحق اليمينيين.
فشل «الحزب الاشتراكي العمالي» اليساري الذي يقوده سانشيز في الانتخابات المحلية والبلدية التي حصلت في 28 أيار. في المقابل، حقق حزب «فوكس» اليميني المتطرف انتصارات عدة، من كانتابريا إلى كوستا ديل سول، ففاز بأكثر من 11% من التصويت الشعبي. يأمل سانشيز في أن تشكّل الانتخابات العامة المقبلة فرصة لاستمالة الناخبين المعادين لليمين، فهو يخوض حملته بناءً على شعارات تُصَوّر الانتخابات وكأنها خيار بين «الحقوق» الديمقراطية و»اليمين» المتطرف. لكن هل سيكون تسليط الضوء على مخاطر حزب «فوكس» كافياً لمنحه ولاية ثانية؟
نظراً إلى طبيعة اليمين المتطرف الاستثنائية في إسبانيا، يصعب أن يستفيد أحد من مراقبة ما فعلته البلدان الأوروبية الأخرى لكبح زيادة نفوذ هذا المعسكر. يُعتبر اليمين المتطرف في إسبانيا أكثر ثراءً وثقافة، وأقل تشكيكاً بالوحدة الأوروبية، وأقل انشغالاً بموضوع الهجرة، وأكثر حنيناً إلى الفاشية من أي بلد آخر في أوروبا. مع اقتراب الاستحقاق المنتظر في تموز، لا يملك سانشيز خريطة طريق واضحة لهزم حزب «فوكس» باستثناء تاريخ بلده.
تشمل بلدان أوروبية أخرى، بما في ذلك فرنسا، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، نسختها الخاصة من الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة منذ عقود، ثم انضمت إليها إسبانيا في مرحلة متأخرة نسبياً. لكن ظهر «فوكس» الآن على الساحة، وهو يتعهد بزعزعة السياسة الإسبانية.
يعتبر قادة «فوكس» أنفسهم حتى الآن ذوي ميول يمينية أكثر من أعضاء «الحزب الشعبي»، لكنهم لا يضعون انتماءهم في خانة اليمين المتطرف صراحةً. يقول سيزاريو رودريغيز أغيليرا، أستاذ في جامعة برشلونة: «في إسبانيا، ترتبط فكرة اليمين المتطرف بتأييد مبادئ الجنرال فرانكو. يتجنب عدد كبير من أعضاء «فوكس»، وحتى «الحزب الشعبي»، إدانة ممارسات فرانكو، لكن يفضّل «فوكس» اعتبار نفسه محافِظاً بــــــــــدل أن يكون يمينياً متطرفاً».
لكن بغض النظر عن المواصفات المطروحة، يبقى قادة «فوكس» أحفاد عصر فرانكو سياسياً. كان عدد من الجنرالات السابقين الذين وقّعوا على البيان الداعم لإرث فرانكو جزءاً من مرشّحي «فوكس» في العام 2019. ثمة رابط تاريخي آخر مع فرانكو، فقد أسس عضو في حكومته «الحزب الشعبي»، الذي انبثق منه «فوكس»، خلال السبعينات.
فيما يحاول «الحزب الشعبي» إبعاد نفسه عن ماضيه الداعم لفرانكو، بدأ «فوكس» يعيد إحياء خطابات فرانكو القديمة والسياسات الداعمة للنظام في البلد. يقوم الحزب في جوهره على إيديولوجيا قومية قوية تؤيد إسبانيا الواحدة («إسبانيا الموحّدة العظيمة الحرّة»)، وهي الفكرة التي أوصلت فرانكو إلى السلطة. يدعو بيانه الانتخابي إلى اتخاذ خطوات أساسية يمكن نَسْبها إلى أفكار فرانكو، بما في ذلك «تشديد العقوبات على من يهين العلم أو التاج أو النشيد الوطني»، وإلغاء «قانون الذاكرة التاريخية» الذي صدر في العام 2007 ويهدف إلى «دعم التعويضات الأخلاقية» لضحايا أعمال العنف والاضطهاد التي ارتكبها أتباع فرانكو.
يؤكد هذا القانون المثير للجدل، الذي مرّره «الحزب الاشتراكي العمالي»، على حق أحفاد ضحايا النظام بنبش المقابر الجماعية التي تنتشر بالمئات في أنحاء البلد، ومساعدة أفراد العائلات على جمع المعلومات اللازمة لتعقب أحبائهم بعد تعرضهم للاعتقال أو الإعدام على يد النظام.
قد يكون التعاطف مع فرانكو جزءاً من أجندة اليمين المتطرف في إسبانيا، لكن يتبنى حزب «فوكس» قيماً يتقاسمها اليمين المتطرف تقليدياً في سياقات أخرى أيضاً. يدعو بيان الحزب مثلاً إلى إغلاق المساجد التي «تنشر أفكار الأصولية، أو الازدراء بالنساء، أو الجهاد»، وهو يدعم ترحيل المهاجرين إذا كانوا يقيمون في إسبانيا بطريقة غير شرعية، ويعارض الإجهاض والإجازة المَرَضية المتعلقة بفترة الحمل. كذلك، حاول «فوكس» إلغاء القوانين الداعمة للمثليين، لكنه لم ينجح في مساعيه، وأنكر حقيقة التغير المناخي.
لكن رغم هذه الميول اليمينية المتطرفة، سعى الحزب إلى إبعاد نفسه عن أحزاب اليمين المتطرف الأخرى في أوروبا، وقد اتّضح هذا الموقف في الوفد الذي يمثّله في بروكسل. في العام 2019، حين كان عدد من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأكثر تقليدية في أوروبا يشكّل كتلته اليمينية المتطرفة داخل البرلمان الأوروبي، باسم «الهوية والديمقراطية»، اختار «فوكس» الاصطفاف مع كتلة «المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين» الأكثر وسطية.
لكن ما سبب هذا الموقف؟ على عكس جزء كبير من أحزاب اليمين المتطرف الأخرى في أوروبا، يحصد «فوكس» دعماً قوياً من الناخبين المنتمين إلى الطبقة الوسطى. برأي رودريغيز أغيليرا، ينجم هذا الموقف عن أجندة الحزب النيوليبرالية: «يؤيد مؤسس وزعيم «فوكس»، سانتياغو أباسكال، إلغاء القيود، والخصخصة، والتحرر. من الناحية الاقتصادية إذاً، هو قريب من المحافظين أكثر من اليمين المتطرف». لهذا السبب، تأثّر أبرز مناصري «فوكس» بالاقتراحات التي تدعو إلى إلغاء ضرائب الميراث الضخمة في إسبانيا أو مساعدة أصحاب المنازل على طرد محتلّي الأملاك بطريقة غير قانونية.
في هذا السياق، يقول فيسنتي روبيو بويو، أستاذ في جامعة «فودهام» في نيويورك: «يبدو أن «فوكس» يستغل بعض مخاوف الطبقة الوسطى الإسبانية التي ترسخت منذ عهد فرانكو في مجال الملكية واقتناء الأملاك». وصل فرانكو إلى السلطة بعد إطلاق تمرّد عسكري ضد حكومة جمهورية كانت تطبّق سياسة «الإصلاح الزراعي»، أي مصادرة جزء كبير من الأراضي الزراعية في جنوب إسبانيا. من خلال استغلال المخاوف الكامنة لدى الطبقة الحاكمة بشأن هذه الأملاك، يظن روبيو بويو أن حزب «فوكس» يمكن تصنيفه في أفضل الأحوال كحركة سياسية «من حقبة ما بعد الفاشية».
لكن يبدو هذا الحزب أقل انشغالاً بالمسائل العرقية من نظرائه بعد الحقبة الفاشية. يخوض «فوكس» حملته الانتخابية بناءً على برنامج معادٍ للهجرة، لكن لم يتضح بعد حجم الثقل السياسي الذي يمكن كسبه عبر لوم الأجانب. هذا الوضع ينشئ الظروف المناسبة لتوسيع نفوذ اليمين المتطرف في إسبانيا، بما يختلف عما يحصل في عدد كبير من البلدان الأوروبية الأخرى. تقول ساندرا ليون، أستاذة في العلوم السياسية في جامعة كارلوس الثالث في مدريد: «كانت إسبانيا تحمل تقليدياً آراءً تقدمية نسبياً في ملف الهجرة».
تدعم استطلاعات متكررة يجريها المركز الوطني الإسباني للبحوث الاجتماعية هذا الرأي. رداً على سؤال حول أبرز ثلاث مشاكل تواجهها إسبانيا في الوقت الراهن، لا يذكر عدد كبير من الإسبان مسألة الهجرة. يكشف استطلاع نشرته المفوضية الأوروبية في شهر حزيران الماضي أن 20% من الإسبان يعتبرون الهجرة مشكلة أكثر مما هي فرصة، مقارنةً بـ39% في فرنسا، و26% في إيطاليا، و27% في ألمانيا، و31% في الدنمارك، و35% في النمسا، و60% في اليونان. لا تشغل هذه المسألة تفكير معظم الناس، برأي كارمن غونزاليز أنريكيز، محللة مرموقة في معهد البحث الإسباني «إلكانو رويال».
تضيف ليون: «زادت المشاعر المعادية للهجرة في إسبانيا خلال السنوات الأخيرة، لكن يختلف هذا البلد من حيث الأهمية التي يعطيها الناس لهذه المسألة. لا تزال الهجرة غير أساسية بالنسبة إلى الناخبين الإسبان».
يتعلق اختلاف آخر بين أفكار اليمين المتطرف في إسبانيا وأماكن أخرى من أوروبا بالموقف الإسباني من الاتحاد الأوروبي بحد ذاته. عبّرت الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة عن تشكيكها الصريح بكيان الاتحاد الأوروبي منذ البداية، لكن حرص حزب «فوكس» من جهته على تخفيف لهجة خطابه المعادي للاتحاد. يشعر عدد كبير من الإسبان بالامتنان على الدعم الذي قدّمه الاتحاد الأوروبي لتسهيل التكيّف مع تداعيات «كوفيد-19».
تقول غونزاليز أنريكيز: «يُعتبر الاتحاد الأوروبي في إسبانيا أداة للاحتماء من حكومتنا. تبدو الهوية الأوروبية للإسبان أقوى مما هي عليه في دول الاتحاد الأوروبي النموذجية لأن هذا الاتحاد يُعتبر عالماً آمناً من الحداثة، والمنطق، والسلام، والديمقراطية. يتناقض هذا الرأي مع النظرة السيئة التي نحملها عن مؤسسات دولتنا».
سيضطر سانشيز لمحاربة هذا الرأي حين يحتدم السباق قبيل موعد الانتخابات. تعليقاً على هذا الموضوع، يقول سيباستيان فابر، أستاذ في الدراسات اللاتينية في «كلية أوبيرلين» الأميركية: «يدعو سانشيز إلى إنشاء جبهة موحدة لمنع وصول حكومة يمينية متطرفة إلى السلطة، علماً أن هذا الاحتمال أصبح واقعياً بعد نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة. لكن لا شيء يؤكد على نجاح هذه الاستراتيجية».
يمكن البدء بجمع أصوات المعادين لليمينيين لدعم الحقوق الديمقراطية والتصدي لخطابات حملة اليمين المتطرف. لكن تتعلق مشكلة سانشيز الحقيقية بتحوّل «فوكس» الآن إلى جزء أساسي من تركيبة البلد السياسية، ما يعني أن اعتبار الحزب مجرّد مصدر إزعاج يميني هامشي لن يكون كافياً في المرحلة المقبلة. هل سيتمكن سانشيز من التكيّف مع هذا الوضع المستجد ويضمن صموده في السلطة؟