الإبداع اللبناني عجز حتى الآن عن تقديم خطّة واحدة منطقية وعادلة ومتكاملة للخروج من الازمة. أربع سنوات ضائعة من عمر البلد حتى الآن وليس هناك مشروع واحد مفيد يمرّ في الحكومة والمجلس النيابي ويتم إقراره وتنفيذه. بل ليس هناك في هذه المعمعة كلمة حق واحدة لا يُراد بها باطل ولا مسؤول واحد يستحق لقبه وليس لديه مئة غاية مبيّته أو لا يوقفه عن واجبه المهني والأخلاقي إعتبارات أو «تضارب مصالح».
نعم، هناك «عجقة» من الخطط ومشاريع القوانين العالقة في الهواء وفي الدُرج وليس بينها ما يستحق عنوانه. والأنكى انها كلها تهدف الى عكس ما تعلن وجميعها يعمل، كما كل شيء في هذه المزرعة، في خدمة المنظومة ومصالحها.
• خُطط «تعافٍ» تهدف الى الإفلات من المحاسبة وتدفيع الناس فاتورة عقود من الفساد والفشل.
• مشاريع متعددة لقانون «الكابيتال كونترول» ليس بينها كابيتال كونترول حقيقي واحد.
• موازنات لا تعرف شيئاً من التوازن.
في هذا الظرف الصعب الذي كثر فيه الدجالون وقلّ فيه أصحاب الضمير والحسّ الوطني دعونا نضع الإبداع والشطارة اللبنانيّة على جنب ونأخذ الطريق المضمون والمجرّب وهو «التقليد».
فاختاروا الأزمة التي تريدون وقلّدوا الحلول التي نجحت. إختاروا الدولة التي تريدون وقلّدوها فلعلّنا نبدأ بالخروج من هذه الحفرة خلال القرن الحالي. إختاروا الحالة التي تعجبكم وسوف نقبل بها لأنه ليس هناك أكثر إجراماً من إدارة الأزمة عبر شراء الوقت وانتظار موت المواطنين والدائنين على ضفّة الضحالة وإنعدام المسؤولية.
من جهتنا نقترح حالتين معروفتين عالميّاً يمكن التعلّم منهما الكثير وتطبيق ما يناسبنا هذا إذا لم يكن تضييع الوقت المتعمّد قد قضى على أيّة إمكانية متبقّية للنجاح. هاتان الحالتان هما الأزمة الأيسلنديّة وازمة بنك سيليكون فالي (SVB).
1 - الإنهيار المصرفي في أيسلندا (2008)
شكّلت الأزمة المالية الأيسلندية حدثاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً في هذه البلاد النائية بين عامي 2008 و 2010 وقد أدّت الى تعثر جميع البنوك التجارية الثلاثة العاملة في البلد بعد أن واجهت مشاكل في إعادة تمويل ديونها القصيرة الأجل بعد موجة الطلب على سحب الودائع خلال الأزمة المالية العالميّة. بلغ الدين الخارجي لأيسلندا 50 مليار يورو، أي أكثر من سبعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي وكانت أصول البنوك الثلاثة تشكّل أكثر من أحد عشر ضعف الناتج المحلي الإجمالي الوطني. نظراً للحجم الهائل للنظام المصرفي الآيسلندي مقارنة بالاقتصاد العام، لم يتمكن البنك المركزي من القيام بدوره كمقرض الملاذ الأخير خلال الأزمة، مما أدى إلى تفاقم عدم الثقة في النظام المصرفي بأكمله.
تدخّلت السلطات الأيسلندية خلال فترة ايام معدودة وأقرت قانون الطوارئ الذي مكّن هيئة الرقابة المالية (FME) من وضع يدها على المؤسسات المالية فضمنت ودائع المواطنين الأيسلنديين بالكامل وفرضت ضوابط صارمة على رأس المال لتحقيق الاستقرار في قيمة العملة المحليّة وبدأت التفاوض مع الدائنين الأجانب. في الأيام التالية، تم تأسيس بنوك جديدة لتتولى العمليات المحلية للبنوك الثلاثة المتعثّرة. بالتوازي، قامت الدولة الأيسلندية بتشكيل هيئات تحقيق متخصّصة فلاحقت جميع المصرفيين والسياسيين المرتكبين وزجّتهم في السجون.
حصلت أيسلندا على حزمة قروض بقيمة 5.1 مليارات دولار أميركي من صندوق النقد الدولي وبلدان شمال أوروبا من أجل تمويل عجز الميزانية وإنقاذ النظام المصرفي. بدأ الإقتصاد إستعادة حيويّته إبتداءً من سنة 2010 ثمّ انتهى برنامج الدعم الدولي الذي يقوده صندوق النقد رسمياً في 2011، أمّا الضوابط على حركة رأس المال فتم رفعها بالكامل عام 2017.
2 - أزمة بنك سيليكون فالي (SVB) في الولايات المتحدة وأوروبا (2023)
في الربع الأول من هذه السنة 2023، شكّلت أزمة بنك سيليكون فالي (SVB) وما تبعه من أزمات مصرفيّة أخرى في الولايات المتحدة وأوروبا الخضّة المصرفيّة الأكبر منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. فقد أثارت مخاوف جديّة بشأن صحة النظام المالي العالمي لكن سرعة تدخّل السلطات النقدية والرقابية في جميع هذه الحالات ساعدت في إحتواء الأزمة.
أحد جذور الأزمة هو قيام الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى برفع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها منذ الأزمة المالية في 2008 في محاولة لاحتواء التضخم المرتفع باستمرار، ولكن هذا جعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للعديد من عملاء بنك وادي السيليكون الذين هم في أكثرهم من المستثمرين في الشركات الناشئة التي تحتاج لضخ مستمر للرساميل. فآثر هؤلاء المستثمرون عدم الإقتراض بفوائد مرتفعة وعمدوا الى السحب من ودائعهم لدى SVB لتمويل شركاتهم مما زاد الضغوط على سيولة المصرف الذي كان قد استثمر جزءاً مهماً من محفظته الاستثمارية في سندات الخزانة الأميركية الطويلة الأجل. جهد SVB لمواكبة وتيرة عمليات السحب من الودائع وعمل على بيع جزء من محفظته الاستثمارية محققاً خسارة بـ 1.8 مليار دولار، ثم حاول زيادة رأس ماله لكن الصعوبات التي كان يواجهها بدأت تخرج الى العلن مما حتّم التدخل الفوري لسلطات الرقابة النقديّة لإحتواء الوضع ومعالجته. فتم إغلاق البنك في بداية عطلة الأسبوع كما يحدث عادةً في هذه الحالات وقررت الهيئة الفدرالية لضمان الودائع (FDIC) إدارته بينما يتم إيجاد مؤسسة مصرفية أخرى تستحوذ عليه وقررت الهيئة ضمان كامل ودائع الزبائن وليس فقط الحدّ المضمون عادةً وهو 250 ألف دولار لكل وديعة، كما عمدت الى تصفير حصص جميع المساهمين. بعد أيام، تم الإتفاق مع First Citizens Bank على شراء أصول بنك SVB بما فيها الودائع والقروض وفروعه السبعة عشر على أن يتحمّل الشاري قسماً من الخسائر وتغطي الـ FDIC الباقي.
أما في بريطانيا، فقد إتفقت سلطات الرقابة المصرفية مع HSBC Holding على أن يستحوذ مصرفه المحلّي على Silicon Valley Bank UK Limited مقابل جنيه إسترليني واحد (₤1). مع العلم انه كانت لدى SVB UK قروض تبلغ حوالى 5.5 مليارات جنيه إسترليني وودائع بحوالى 6.7 مليارات جنيه إسترليني. إستفادHSBC من هذا الاستحواذ لتعزيز مكانته في مجال شركات التكنولوجيا والشركات الناشئة وأطلق HSBC Innovation Banking.
ولكي لا يذهب خياركم إلى تقليد فنزويلا أو زيمبابوي نود أن نذكّر أن فنزويلا تجلس على أعلى مخزون من الثروة النفطية في العالم وترتيبه يأتي قبل السعودية وايران بينما لدى زيمبابوي ثروة معدنيّة ضخمة من الذهب في أراضيها تقدّر بـ ١۳ مليون طنّ. فماذا لديكم أنتم من ثروات لتوضع على الطاولة غير إرث المرحوم؟
لا ضرر من تقليد الدول الناجحة الى ان تصبحوا دولة من جديد.
@JeanClaudeSaade
*خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي