مصطفى علوش

لتحرير كوع الكحّالة من دينه!

18 آب 2023

02 : 00

«من حفنة وشذا أرز كفايتهم زنودهم إن تقل الأرض أوطان

هل جنة الله إلا حيثما هنئت عيناك كل إتساع بعد بهتان»

(سعيد عقل)

لا يمكن اليوم محاكمة الماريشال «أوجين بيتان» بشكل موضوعي أو عادل، كما أنّه لا يمكن فهم كيف تحول «أسد معركة فردان» وحامي فرنسا من الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، إلى دمية في يد الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية. أتخيل أنه قد يكون جرى حديث رفاق سلاح بينه وبين الجنرال ديغول، ليتحول حكم الإعدام إلى سجن مدى الحياة لرجل في أواخر عقده التاسع؟

أظن أنّ بيتان قال لديغول «لقد سقطت باريس وأنا أردت أن أحصر الأضرار وأنقذ ما يمكن إنقاذه، قل لي ما كنت ستفعله في مكاني؟» ربما استشاط ديغول منه غيظاً مؤكداً أنه كان انتحر بدل الاستسلام، أو أنه نعته بالخائن الجبان، أو أنه بحكمة، فكر وتفهم السبب الذي دفع «أسد فردان» ليتحول إلى دمية للإحتلال، فقرر حبسه، بالتفاهم معه بدل الإعدام...

كل ذلك أصبح في حكم التاريخ الذي كتبه المنتصر، ومنع القانون الفرنسي كل تدقيق وتحقيق في الرواية الرسمية لتلك الحرب تحت طائلة العقاب. لكن بيتان أصبح الخائن وديغول أصبح البطل، أما التفاصيل فبقيت من دون أهمية.

لحسن حظنا في لبنان أن الجيش ليس سلطة مستقلة، ولا هو سلطة أساساً، بل هو، كما يجب أن يكون، أداة الأمن في يد السلطة. وقد نستدرك أيضاً بأن نقول إنّ السلطة في لبنان هي نتاج صناديق الاقتراع، صناديق الاقتراع تلك فتحت بنتائجها على الواقع اللبناني، وهو أنّ أي سلطة تأتي ستبقى واقعة تحت وطأة الديموغرافيا والجغرافيا التي أسقط فيها البلد وسكانه، من غير سابق إصرار أو تصميم! فلا لبنان اختار موقعه، ولا من وجدوا على هذه الأرض اختاروا الولادة فيه ولا زمان الولادة ولا الدين ولا الطائفة... كلها مسائل تحكمها الصدف، لكن تلك الصدف تتحكم بالحاضر الذي يمر بلمح البصر، وبالمستقبل المأمول أو الكائن في عالم الغيب.

علي أن أعتذر تكراراً على الهذيان الفلسفي في ما أكتب، لكن الفلسفة تبقى ملاذاً عند استعصاء الحلول.

بالوقائع، لا شك أنّ الصدفة هي التي جعلت من كوع الكحالة قائماً في الكحالة، كما أنّ الصدفة جعلت من سكانه من دين أو طائفة معينة، كما أنّ الصدفة ذاتها وضعتها على طريق إلزامي، أو شبه إلزامي، لمرور العابرين إلى منازلهم، أو السياح الذاهبين إلى الفرح، كما شحنات الأسلحة والمتفجرات. يكفي في هذه اللحظة أن نشكر القدر على أنّ الشاحنة المنقلبة لم تكن تحمل متفجرات على شاكلة ما حصل في المرفأ. لكن المؤكد هو أنّ ما حصل لم يكن مفاجأة، فالمنطق يقول إنّ شحنات متكررة مماثلة مرت آلاف المرات، وستمر، ولو بعد سكون العاصفة، لكون هذا الكوع بالذات اليوم واقع على طريق تبدأ في طهران، تمر بالعراق وسوريا، لتصل إلى من جعلتهم الصدفة من طائفة معينة، وجعلتهم تلك الصدفة يعتقدون أنّ التضحية بذاتهم وبذوات آخرين، هي عمل محمود للوصول إلى المستقبل الموهوم بأساطير الماضي.

من هنا، فلا حق لأحد أن يلوم الجيش ولا قيادته، فبمجرد خضوع السلطة المشتركة بين الطوائف لخيار «شعب وجيش ومقاومة» أصبح الجيش ملزماً بتنفيذ هذا الأمر. يعني أنّ القرارات الأمنية كلها منسقة على أساس هذه الثلاثية، كما أنّ وفيق صفا، أو من يوازيه، موجود دائماً في المؤسسات الأمنية والاستخباراتية كما القضائية والسياسية، بناء على الثلاثية القاتلة المفروضة على السلطة. فلن يفتش الجيش الشاحنات مهما كان محتواها، أكان سلاحاً أم غازات سامة أم صواريخ، كما أنّه لن يقف في وجه شحنة كبتاغون أو حشيشة كيف أم الكترونيات مهربة، ولا سيارة مسروقة أو مواطن مخطوف، طالما أنّ السيارة تابعة لـ»حزب الله». يعني أنّ القضية الأساس هو كون السلطة السياسية، برئيس جمهورية أم من دونه، واقعة تحت التهديد الدائم بالفتنة أو الموت. ومن عاش ليرى ما حدث على مدى العقدين الماضيين، يفهم أنّ السلطة إمّا متواطئة بالفساد أو بإغراء المواقع، أو بسبب الخوف من الموت أو الفتنة.

لكننا لسنا جميعاً أبرياء، فمن هلل لـ»حزب الله» في أيام الرهاب من التطرف الذي توهم الناس أنّ «الحزب» هو السد المنيع في وجهه، مسؤول أيضاً عن تفرعن «الحزب». لنتذكر أنّ هذا «الحزب» أمن الطريق للداعشيين للخروج سالمين من الجرود. يعني أننا وقعنا تحت هيمنة الأسطورة، فسقطنا رهائن لها. ومن ظن أنّ «الصحوة الشيعية» المتمثلة بالمشروع الحربي لولاية الفقيه، هي من التي ستؤمن التوازن مع السنة، يعلم اليوم أنّ لا شيء يأتي من دون مقابل، وأننا خسرنا بسبب هذا الوهم حتى أقرب أصدقائنا.

من أجل هذا، علينا أن نحرر شهيد كوع الكحالة من تاريخ مختلف عليه، وإخراج المسألة من بعد محصور بأجراس الكنائس، وهي حق بالتأكيد، إلى رحابة البلد كوطن، وأنّ هذا البلد واقع تحت الاحتلال، وأنّ قضية الكحالة هي مسألة تخص البلد بأجمعه، فيما نحن منقسمون حتى الآن على توصيف الحالة، فيما الاحتلال يعتمد على انقسامنا. وقد يسأل هنا من هو في السلطة، كما افترضت أن بيتان قال لديغول «قل لي ما أنت فاعل في مكاني؟»


MISS 3