كريم مروة

وجوه وأعلام

العلامة اللبناني الشيخ موسى سبيتي أديب ومفكّر تنويري

28 نيسان 2020

05 : 25

الشيخ موسى سبيتي

أعترف بأنّني دُهشتُ بما قرأت في المجلدات الثلاثة التي قدمها لي صديقي ابنه والتي تضم أعمال العالم في شؤون الدين والدنيا الشيخ موسى سبيتي. وما قرأته هو انتقاء يسبق القراءة المعمّقة التي ستأتي لاحقاً عندما تتوفر شروطها. ذلك أنّ ما تقدّمه تلك المجلّدات في العديد من المواضيع والقضايا من أفكار نيّرة هي التي تعطي لمؤلفها العلامة الشيخ موسى سبيتي صفة وسمة المفكر العقلاني المميّز من موقعه كرجل دين مسلم.



السيد موسى الصدر



لكن اعترافي بالدهشة بما قرأت يقترن بدهشة أخرى تتصل بسيرة هذا العالم الكبير الذي ينتمي إلى عائلة عريقة لها امتدادات مع عائلات عريقة أخرى. وهي عائلات تميّزت بما قدّمته من جليل في الفكر وفي التنوير لأهل الجنوب خصوصاً وللبنان وللفكر الإسلامي في وجهٍ أعمّ. والقيمة الأساسية للعلاّمة الشيخ موسى السبيتي إنما تكمن في أنّه أعطى في ما قدّمه من أفكار في كل شؤون الحياة صورة جميلة وراقية هي من سمات اتصفت بها مجموعة من كبار رجال العلم في شؤون الدين والدنيا كان من رموزها إلى جانب العلامة سبيتي والسيّد عبد الحسين شرف الدين مؤسِّس الصرح العلمي المعروف بالجعفرية مؤسِّس المدرسة العلويّة في دمشق في عشرينات القرن الماضي والسيّد محسن الأمين المعروف باجتهاداته المميزة في الشأن الديني وفي شؤون حياتية أخرى لرجل الدين المسلم يكملهما الشيخ موسى السبيتي في مدرسته الفكرية المميزة، ومعه ومعهم كوكبة من كبار أهل الفكر والمعرفة من رجال الدين الشيعة في جنوب لبنان الذين تركوا بصماتهم على امتداد قرن بكامله.



السيد محمد حسين فضل الله



يدهشك وأنت تتصفّح المجلّدات الثلاثة ذلك الحشد للمواضيع والقضايا التي يتصدى لمعالجتها بجرأة واستنارة الشيخ موسى السبيتي. فهو لا يكتفي بعرض آرائه في الدين الإسلامي ودفاعه عن قيمه الروحية، مستشهداً بالكثير من الآيات القرآنية التي ما أن يطلع القارئ على محتوياتها حتى يدرك كم هي عظيمة تلك القيم الإنسانية في الدين، وكم هو رائع شيخنا في عرض أفكاره النيّرة باسمها. ثم يدرك القارئ في الآن ذاته كم هو مؤسف ما انتهى إليه النفاق والدجل باسم الإسلام وصولاً إلى وحوش الغاب من أمثال القاعدة وداعش والنصرة وشبيهاتها، الذين يقتلون البشر، ويدمّرون معالم الحضارة، ويعلنون انتماءهم زوراً للإسلام ضدّ قِيَمه الإنسانية الكبرى. لا يكتفي شيخنا العالم بالدفاع عن الإسلام. بل هو يذهب عميقاً في تقديم آرائه القيّمة في شؤون الحياة مدافعاً بحزم عن الحرية التي هي حق أساسي من حقوق الإنسان، ومدافعاً عن حق الإنسان في اختيار طريقة حياته، وحقه في اختيار أفكاره، وحقه في أن يكون مؤمناً أو لا يكون، مستشهداً في ذلك بآيتين من القرآن "لا إكراه في الدين" "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وفي سوى ذلك من الحقوق الأساسية التي تعود للإنسان".



الشيخ سليمان ضاهر



لكن من أكثر ما أدهشني من اهتمامات شيخنا شغفه بالأدب. فهو يدخل عميقاً في عالم الأدب قديمه وحديثه. كما يتوقف عند عدد من كبار أدباء العرب القدامى بعض مَنْ أحبَّ من الأدباء المعاصرين. ويتوقف عند ابن المقفّع في "كليلة ودمنة" وعند المتنبّي وأبو تمّام والمعرّي والبحتري، ويقدّم قراءته لأدبهم من وجهة نظر قارئ لا من وجهة نظر رجل دين. ميزة شيخنا الكبير أنّه يتعامل مع الأشياء والأحداث والناس كإنسان في الدرجة الأولى، قبل أن يكون رجل دين. وهي قيمة أساسية تضاف إلى القيم التي تشكّل سيرته ومدرسته في مختلف القضايا التي حرص أن تكون غنية بالاجتهادات في شتى شؤون الحياة.



الشيخ أحمد رضا



ويهمّني، وأنا أستذكر هذه الشخصية المرموقة، أن أقدّم بعض النماذج من اجتهادات شيخنا التي تشير بوضوح إلى ما تميَّز به من سعة أفق ومن ارتباط بالعصر وبالتحولات التي تحدث فيه استكمالاً لتحولات جرت في العصور السابقة. فهو يعتبر أنّ الإنسان المؤمن وغير المؤمن إنّما يعيش في الزمان الذي هو فيه، وأن عليه ألّا يبقى أسير أفكار ورؤى وشؤون أخرى صارت من الماضي. وهو يؤكد ذلك بوضوح في تعريفه للاجتهاد في الإسلام بأنّه، والقول له: "شرط ضروري لكي يبقى محتفظاً بنضارته وبتجدده تبعاً لمقتضيات الأمس ومسايرة لتقدّم الإنسانية ورقيّها المستمر". ويتابع، تأكيداً لموقفه من الاجتهاد كضرورة بشرية، قائلاً إن إغلاق باب الاجتهاد من أهم مصائب المسلمين ومن أعظم النكبات التي مُني بها المجتمع الإسلامي. فلقد قضوا على الإسلام بالجمود وحكموا عليه بالتحجر والصلابة. فبقيت المدنية في سيرها المتواصل وتأخّر المسلمون وجمدوا ووقفوا وانحطوا..." ويتابع: "فإذا فرضنا أنّنا نعالج مشاكلنا اليوم بآراء قديمة مضى عليها الزمن، فمعناه أننا قضينا على المجتمع بالرجوع إلى الوراء...".



الشيخ محمد مهدي شمس الدين



واستناداً إلى رأيه القاطع بأنّ الاجتهاد في الدين ضرورة حياتية، يؤكّد أنّ حرية الفكر والمعتقد هي شرط من شروط الحياة. ويقول: "فالفكر والمعتقد لا يمكن أن يدخلهما الإكراه والقسوة.. فالمعتقد هو أسمى من أن يناله الجبر والقسوة والإكراه". ويستشهد لدعم موقفه بالآيتين الآنف ذكرهما من القرآن: "لا إكراه في الدين" "ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".



السيد محسن الأمين



كثيرة هي في المجلّدات الثلاثة أحاديثه عن حرية الإنسان التي يؤكِّد عليها الإسلام، باعتبارها في نظره وفي نظر الإسلام، شرطاً من الشروط التي تعبّر عن حق الإنسان في اختيار أفكاره وطرائق حياته واختيار معتقداته. وهي حقوق يشترط شيخنا في أن تكون دائماً لصالح خير الإنسانية.



الشيخ محمد جواد مغنية



ومن ميزات شيخنا، إضافة إلى ما تقدّم، أنه يقتحم من موقعه الديني والفكري والإنساني معاقل الفكر الإنساني في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، فيتوقف عند المعتزلة وعند إخوان الصفا وعند المتصوفين. كما يتوقف عند ابن رشد وأبو حيّان التوحيدي الذي يعتبره مظلوماً. ويعرض لبعض الاتجاهات الفلسفية عند العرب. كما يتوقف بإعجاب عند الأديب الروسي تولستوي.



الشيخ علي الزين



كثيرة هي القضايا التي عالجها في كتاباته الشيخ الجليل موسى السبيتي التي تضمّها هذه المجلّدات الثلاثة. وهي المرجع الأساس لمعرفة قيمة هذا الرجل، ليس كرجل دين مستنير معاصر وحسب، بل كمفكّر مميّز في قراءاته لأحداث الحياة وشؤونها. فهو لا يستحق التقدير وحسب، بل إنه يستحق أن يطّلع على أفكاره أهل الثقافة، فضلاً عن جمهور المسلمين الذين هم اليوم، على وجه الخصوص، بحاجة لاستشارته ولاجتهاده في شأن الإسلام، إعلاءً لقيمه الإنسانية، وتحريراً له مما أسيء إليه في الماضي، وما أسيء إليه في هذا الزمن العجيب الذي نحن فيه.



الشيخ عبدالله العلايلي



وأستشهد في ما يلي بنص مهم للشيخ السبيتي يشير بوضوح إلى السمة التي اتصف بها كمفكر عقلاني تنويري في شؤون الدين والدنيا على حد سواء. يقول: "لقد تقدم النقد تقدماً يساير تقدم الإنسانية شبراً فشبراً، فهو ينمو ويتجدد باستمرار، وعقلية البشر تتدرج في مراقي الكمال خطى واسعة، ما دام الإنسان يسعى إلى كشف المجهول وإفساح مجال النقد، فقد تناول الأدب والفلسفة والسياسة نحو الأديان، لكنه اتجاه فيه كثير من الحيطة والحذر والتحفظ وإبقاء على عواطف كثير من الناس. ولكن هذا التحفظ سيزول، ويتقدم النقد بأدواته وأسبابه، ويفتش عن المصالح وغيره، وعن الخالص والمشروب وعن النقي والكدر. فالذي ينفع الناس يبقى والذي لا ينفع فيه سيذهب متلاشياً.



السيد هاني فحص



بالنقد يتقدم الإنسان، والإنسانية، على رغم الحواجز والسدود، لا بد لها من دين لا يهدم عنصراً من عناصر عقليتها، ولا يلح بإكراه على التصرف في تغيير معلومات، تعد من بديهيات العقل البشري، ولا يقف متهاوناً ولا محقراً ناحية من نواحي الثقافة، ولا مخاصماً لوناً من ألوان الحضارة. بل لا بد أن تكون طيعة سهلة تحرك الخامد وتبعث الهاجد وتحرص على نمو العلم، كما تحرص على العناصر التي يتألف منها المجتمع الكامل والفرد السعيد.



الشيخ صبحي الصالح



على ضوء هذه النظرية نسير، وعن هذه الطلبة نفتش في مجاهل التاريخ وبطون الأسفار ومختلف البقاع وثنايا العقول. وسنعرض عليك ونبسط أمامك ما أدركنا من نتائج، وما وصلنا إليه. ولا ندعي العصمة ولا نذهب إلى أننا بلغنا الرأي الأخير. فالعلم والنظر والنقد لا تعرف الرأي الأخير. وإلا لما ترك المتقدم للمتأخر شيئاً. والكتاب مختصر موجز، في حين أن موضوعه واسع يقتضي مجلدات، ويستنفد جهود أفراد وليس فرداً واحداً، ولكن انصراف الناس عن التوسع في الاطلاع على هذه المواضيع، هو العامل الأكبر في إنجازه، القريب من التفريط، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه".


MISS 3