د. عماد شيّا

كمال جنبلاط و"حزب الله" والرهان الخاسر

23 آب 2023

02 : 00

في كتابه الأخير في سبيل لبنان («هذه وصيتي»)، وفي سياق مراجعته مسيرته السياسية لا سيّما خلال سبعينات القرن الماضي، خلص كمال جنبلاط إلى ما يعني استحالة تحقيق أي إصلاح أو إحداث أي تغيير أو تحوّل سياسي في لبنان، من دون انخراط وتغطية قوى مسيحية وازنة، تكون لديها القدرة على الحؤول دون تدحرج أي مواجهة سياسية داخلية إلى حرب أهلية ومواجهة طائفية دامية ومديدة...

وأعرب في الكتاب نفسه عن خيبة كبيرة جرّاء إخفاقه وقادة أحزاب علمانية مسيحية كالشيوعي والقومي وغيرهما من شخصيات وهيئات الحركة الوطنية، في التأثير بالعمق المسيحي، وإقناعه بالتعامل مع المستجدّات السياسية والعسكرية والديموغرافية في لبنان والمنطقة بعد مرحلة الاستقلال، بمسؤولية وطنية، ومعالجة المشكلات القائمة بالحوار لإصلاح النظام اللبناني على أساس برنامج إصلاحي مرحلي وليس بشدّ العصب الطائفي دفاعاً عن امتيازات فئوية تعدّاها الواقع وتجاوزها الزمن.

وفي فصل من الكتاب نفسه بعنوان «الصاعق الفلسطيني»، لم يتوانَ جنبلاط عن نقد فوضى السلاح الفلسطيني وانتهاكاته التي لا تليق بصورة القضية الفلسطينية وسمعتها، والاعتراف بالأخطاء المرتكبة وتنديده بمشاركة عناصر ومجموعات من بعض الأحزاب التي وصفها بـ»الوطنجية»، وتغطيتها هذا السلاح المتفلّت والجائر الذي أصبح عبئاً على الثورة الفلسطينية.

فمع الإشارة إلى أهمية تنقية ذاكرة اللبنانيين ممّا علق فيها من تشوّهات وأضاليل تصبّ بمصلحة أصحاب العقائد والمشاريع الخارجية على حساب لبنان الدولة والمواطنة، يبقى مهماً في هذا السياق، تسليط الضوء على أحد أسباب إخفاق كمال جنبلاط والحركة الوطنية في رهانهما المسيحي الذي اصطدم باصطفاف مسيحي واسع ومتين من خلال «الجبهة اللبنانية» التي ضمّت الأحزاب والقوى المسيحية الأساسية ومن ورائها الإكليروس، وإنجاز «حزب الله» غير المسبوق باختراق العمق المسيحي، وإحداث تحوّلات سياسية نوعية لمصلحة مشروعه الذي قطع خطوات واسعة وبات من الصعب إيقافه، وهذا الاختراق انطلق بزخم في 6 شباط 2006، بتوقيع «تفاهم مار مخايل» مع الزعيم المسيحي الأقوى، الجنرال ميشال عون، ولا تزال بعد نحو 18 سنة من التوقيع والاختراق النوعي للساحة المسيحية، تجري محاولة ترميم هذا التفاهم بين «حزب الله» وخليفة عون وصهره المدلّل جبران باسيل.

تقييم الحصيلة

أمّا حصيلة «حصاد» هذا التفاهم والاختراق النوعي للساحة المسيحية بالنسبة للبنان سياسياً واجتماعياً وأمنياً واقتصادياً ونقدياً على مدى 18 سنة، وما هو متوقّع من «مواسم حصاد» عملية «ترميم التفاهم» الجارية، والنتائج المترتّبة عن كل ذلك على لبنان الدولة والكيان عموماً والمسيحيين بشكل خاص، فأترك أمر تقديرها وتقييمها وتوقّع عواقبها للقارئ وضميره.

بالطبع، لا يمكن إعفاء أحزاب وقوى وشخصيات منظومة الفساد المتسلّطة على البلاد والعباد منذ الطائف وحتى اليوم، ممّا جرى ويجري، إمّا بالتغطية والتواطؤ خوفاً من سطوة السلاح أو بمحاصصة الفساد المستفحل الذي أوصل اللبنانيين إلى البؤس والشقاء، وقد اصطلحت بحق تسمية هذه المنظومة بمنظومة السلاح والفساد». غير أنّ الأخطر يبقى ما يعنيه هذا الاختراق ومشروع صاحب هذا الاختراق للساحة المسيحية، المعروفة وجدانياً وتاريخياً بتماهيها مع بلاد الأرز واحتضانها الكيان اللبناني وذودها عن سيادته وحياضه وثقافة أبنائه المتنوعة والمنفتحة على الشرق والغرب.

تشهد الأحداث والتطوّرات منذ توقيع «تفاهم مار مخايل» على نجاح «حزب الله» برهانه على اختراق العمق المسيحي تحت مظلّة تحالف الأقليات. وقد استطاع من خلال هذا التحالف وعلى مدى أكثر من عقد ونيف، أن يمسك بأهم مفاصل الحكم، وأن يكون صاحب كلمة الفصل في كل السلطات وعلى مختلف المستويات. وللمبالغين باعتبار العامل الفلسطيني الأساس في الصراع والحرب الأهلية، تكفي العودة للتاريخ لنعرف أنّ العامل الفلسطيني دخل بقوة على مسرح الأحداث بعد نكسة 1967، فيما الصراع الداخلي على الهوية والامتيازات وإصلاح النظام بدأ في مرحلة ما بعد الاستقلال، وما أحداث 1952، 1958، إلّا خير دليل على ذلك.

إنّ رهان كمال جنبلاط منذ تأسيسه الحزب الاشتراكي بمشاركة أكثرية من النخب المسيحية، إلى تحالفه مع الشخصيات والأحزاب الديموقراطية والعلمانية التي كان معظم قادتها من المسيحيين: من جبهة الإصلاح بالأربعينات إلى الجبهة الاشتراكية ثم الشعبية بالخمسينات إلى تحالف الأحزاب التقدمية واليسارية بالستينات، إلى الحركة الوطنية بالسبعينات، استمرّ (رهانه) على اكتمال النصاب الوطني لا سيّما المسيحي المؤمن بالتغيير والإصلاح.

فشل جنبلاط ونجح «الحزب»

نعم، فشل كمال جنبلاط برهانه التغييري الإصلاحي الديموقراطي على مدى عقود، وبعد اغتياله كرّت سبحة اغتيال رموز المقاومة الوطنية وتحوّلها مع الوقت إلى مقاومة إسلامية وشيعية خالصة، ونجح «حزب الله» في لحظة داخلية إقليمية ودولية، وبمساهمة عامل فائض قوة السلاح بعد التحرير عام 2000، وتحويل وجهته نحو الداخل، وبمساعدة عامل آخر لا يقلّ أهمية، هو تشرذم القوى المسيحية الأساسية، وقبول الزعيم المسيحي الأقوى الجنرال ميشال عون بعد عودته من المنفى، مقايضة مبادئ وجود الدولة وسيادتها بمكاسب السلطة وصفقاتها تحت شعار تحالف الأقليات وحماية السلم الأهلي.

إنّ استمرار نجاح «حزب الله» باختراق العمق المسيحي من خلال قوى مسيحية وازنة وعلى نفس الأسس والروحية وبنفس الذهنية التي قام عليها تفاهم مار مخايل، سيبقي أحوال البلاد على ما هي إن لم تتجه نحو الأسوأ، ولا نبالغ بالقول إنّ الأمل للبلاد والعباد، يبقى بإعادة الاعتبار إلى رهان كمال جنبلاط الوطني والإنساني، الذي عبّر عنه من خلال البرنامج الإصلاحي المرحلي للأحزاب والشخصيات الوطنية والتقدمية، واعتبره البروفسور بالقانون الدستوري إدمون رباط من أفضل الوثائق التي تعرف وتعي الحالة اللبنانية وتشابكاتها، وتصف الحلول الناجعة لها.


MISS 3