رفيق خوري

«ديمقراطية الفرض»

23 آب 2023

02 : 00

معادلات المنطق الصوري ناقصة دائماً. وهي سلاح في يد المتسلط الذي يمارس سياسة البعد الواحد. صحيح أنه لا يجوز ولا مجال لتجميد الحياة والحاجات والضرورات في البلد. لكن الصحيح أيضاً أن القفز من فوق الأولويات هو المشكلة التي تخربط الحياة الوطنية. فلا أولوية تتقدم على إنتخاب رئيس للجمهورية في إطار الإنتظام العام لعمل المؤسسات. ولا أحد يجهل الأسباب والأهداف من التحرك عكس السير عبر فرض الشغور الرئاسي ثم الدعوة الى ما يسمى «تشريع الضرورة».

ذلك أن التشريع مسار دائم ضمن النظام القائم على «مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها» حسب الدستور. والتشريع في غياب رئيس الجمهورية يفقد عاملاً مهماً في اكتمال العملية الدستورية هو رقابة الرئيس على القوانين قبل إصدارها، بحيث يوقع أو يرد القانون مع تعليل لإعادة النظر فيه الى البرلمان خلال شهر أو يترك المهلة تمر من دون توقيع أو رد، بحيث «يُعتبر القانون نافذاً حكماً». فضلاً عن أن البرلمان محكوم منذ بداية المهلة الدستورية قبل شهرين من انتهاء الولاية بألا يمارس أي عمل قبل انتخاب رئيس للجمهورية. وبصرف النظر عن الحاجات الملحة التي يراد فيها تبرير «تشريع الضرورة»، فإن ما ينطبق على هذا التشريع هو التعبير البريطاني الشهير:»محتوى قانوني، لكنه مضر».

وأخطر ما يحدث هو تحوير المفهوم الديمقراطي على مرحلتين: أولى هي الذهاب الى الحد الأقصى في تفسير الديمقراطية التوافقية» كما في مط «الميثاقية». وثانية هي اندفاع الطرف القوي في «ديمقراطية الفرض»: فرض الثلث المعطل في الحكومات. فرض الشغور الرئاسي. فرض تشريع الضرورة. فرض اللاإتفاق مع صندوق النقد الدولي. فرض ما يشبه رقابة جدانوف أيام ستالين على الثقافة. فرض السلاح خارج الشرعية على أساس أنه «عماد» لبنان و»الثابت» وسط «المتغير» في لبنان والمنطقة. وفرض الإفلات من العقاب عبر منع الذهاب الى النهاية في التحقيق العدلي في جريمة الإنفجار الذي دمر المرفأ ونصف بيروت وكان أقوى تفجير غير نووي شهده العالم.

أكثر من ذلك، فإن السؤال هو: ماذا لو وصل المحقق العدلي طارق البيطار الى الحقيقة في جريمة المرفأ وكشفها في تقريره الظني؟ هل نرى محاكمة تحقق العدالة لأهالي الضحايا وأصحاب المؤسسات وسكان البيوت المدمرة وللبلد كله؟ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان توصلت الى جانب من الحقيقة وأصدرت أحكاماً بالسجن المؤبد في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فصار المدانون «قديسين». التحقيق الجنائي في مصرف لبنان كشف جزءاً من الحقيقة في ارتكابات الحاكم السابق و»هندسة» التلاعب مع المصارف بودائع الناس، وسبقته دول أوروبية بإصدار مذكرات توقيف بحق الحاكم وتلته أميركا بفرض عقوبات، فماذا صار؟ شهدنا مهزلة «العجز» عن العثور على رياض سلامة لتبليغه موعد المثول أمام قاضٍ تركه من قبل رهن التحقيق. فاستأنفت قاضية القرار أمام الهيئة الإتهامية التي كسرت القرار، وبقي كل شيء على حاله. ولا شيء يوحي أن التعامل الرسمي مع حادثة الكحالة يختلف عنه مع حادثة الطيونة.

ولكن هذا ليس قدراً لا يُرد. فالعامل المهم في قوة القوي هو ضعف الآخرين الذين ليسوا ضعفاء. والبداية من «التحدي الذي هو القوة الوحيدة للضعيف»، حسب أرثور شنتزلر.


MISS 3