غضب غضب وغضب كثير لكنه غضب صامت في وطن أشبه بغابة مشرّعة على حيتان وحيوانات مفترسة. في غابة كهذه تصبح لغة العقل استسلاماً. البارحة، كان عرساً لكنه مليء بالغضب الصامت. ووحدها ابتسامة الطفلة نايا، إبنة السبعة أعوام، خيّمت على لبنان، كل لبنان، لبنان العشرة آلاف والأربعمئة والإثنين والخمسين كيلومتراً. كانت نايا البارحة في فكر وعقل وروح وغضب كل شخص يتمسك بإنسانيته ويأبى الإستسلام لأوغادٍ رعاع جهلة لا يعرفون إلا لغة السلاح والرصاص الطائش الذي يترك في كل مرّة ندوباً لا تُمحى. نايا، نايا حنا، ودّعها لبنان البارحة بغضبٍ جامح وبكثير من الحبّ. وليس في الحبّ من رحيل...
إنتظر الوالدان كارول وجان ثلاثة أسابيع، 23 يوماً، أكثر من 564 ساعة، أن تفتح نايا مجدداً عينيها الجميلتين الذكيتين وتناديهما: بابي... مامي... وتستلقي على صدريهما، بين أضلعهما، وتغفو. تضرعا الى مار شربل كثيراً. ذرفا الكثيرالكثير من الدموع وهما يتضرعان لتستعيد العافية والحياة. يا لها من لحظات. كأنها دهر. إنها دهر لهما، إستمرّت نايا فيه في مكان ما، بين السماء والأرض، الى أن ارتفعت ليل الخامس والعشرين من آب عروساً سماوية. ها هي الطفلة نايا اليوم بين احضان العذراء.
جان وكارول من أبناء الرجاء لكن مصابهما - نعرف - كبير. أمس، الأحد، كان وداع طفلتهما الأخير بصلاة أقيمت في كنيسة القديس أنطونيوس الكبير للروم الأرثوذكس في فرن الشباك. أصل العائلة، آل حنا، من بلدة الشياح. وبين الشياح وفرن الشباك والحدث كبرت الطفلة نايا. وفي الحدث، في مدرسة القلبين الأقدسين في الحدث، بينما كان أحد الرعاع يحتفي، في منطقة محاذية، بنجاح ولده أصابها برصاصة في الرأس، بين الرأس والرقبة. بكت كثيراً. لم يعرف من هم حولها ما بها. ما أصابها. لم تظهر علامات دماء. وحين نقلت الى المستشفى دخلت في غيبوبة طويلة لتعود وتدخل قبل يومين السماء. هكذا، ببساطة شديدة، أنهى فرح أب حياة أسرة بأكملها كانت سعيدة. فكيف لقاتل أن يتنعم بنجاح ولد وهو يقضي على ولد؟ ألا يقال يمهل ولا يهمل؟ وكلّ شخص أطلق رصاصة في الثالث من آب، يوم صدور نتائج الإمتحانات الرسمية، متهم قاتل.
يوم الوداع
وجع، ألم، حزن، غضب، ذهول... هذا ما بدا عليه المشاركون في يوم وداع نايا. كنيسة القديس انطونيوس في فرن الشباك صغيرة. وهناك، قبل الصلاة عن روح نايا بثلاث ساعات صلاة عن روح نقولا جحا. التعازي بنقولا في الطبقة الأولى وبنايا في الطبقة الثانية. لا شرائط بيضاء. لا صور معلقة. الشمس قوية لكنها لا تلبث أن تخفت لتعود وتسطع حارقة. هو جنونٌ نعيشه في كل شيء. الوالد المفجوع يقف شامخاً يتقبل التعازي بوحيدته. نايا وحيدته ودنياه. وهو وحيدٌ أيضا بين ثلاث بنات، يجلسن ملتاعات. الوالدة كارول تتقبل التعازي، تقف. تهز رأسها. تجلس. تقف. تهز رأسها... بدت كما «الروبو»، بعينين متورمتين لكنهما جافتان. نشف الدمع في عيون أهل نايا وحلّ الذهول. فهذا يومهم الأخير معها. يا الله. كم يمكن أن يتحمل القلب أوجاع الفراق؟ ماذا بعد أن تنتهي مراسم العزاء ويعود الوالدان الى منزلهما ولا يجدان إبتسامة البيت؟ كيف يمكن أن يتحملا؟ يا الله... وحدها دموع الجدتين تريز وجوزيت تحفر وجعاً. ألا يقال «ما اعز من الولد إلا ولد الولد؟».
الصمت والصبر وقوّة الفاجعة
الصمت صراخ من نوع آخر. الصمت كبير كثير. في حضرة الموت لا لزوم لا الى السؤال ولا الى الكلام. نشفت الحروف في الأفواه وفقد كل شيء معناه. ولولا الرجاء لما صمد المفجوعون. النساء يرتدين الأبيض والأسود. لا يليق بنايا إلا الأبيض. نقترب من الوالدين، نقدم واجب العزاء ونصمت مع الصامتين. إنها الساعة الواحدة. لقمة رحمة. إنتهت مراسم دفن نقولا جحا ووصلت سيارة مليئة بباقات الزهر الأبيض في انتظار وصول عروس السماء نايا. إكليل رئيس بلدية الحدث جورج عون وصل باكراً. أكاليل تتالت. لا يهم من اين؟ مِن مَن؟ لم يعد يهم جان وكارول شيئاً في هذه الدنيا بعد رحيل وحيدتهما على عجل. تتعثر الأم وتكاد تقع. يا لجبروتها المجبول بأسى لا يقاس بمكاييل العالم. هناك من تدندن لها: «إصبري يا إمي عالموت القهار وازرعيلي ورود بالدار وكل ما تشمي وردة ضميني لقلبك ألف ضمة». نكاد نسمع من يهمس في أذن نعش نايا سلامات: «سلمي على ابنتي يارا»، «سلمي على ابني أنطوني»، «سلمي على جورجيو»، «سلمي على يوان»، «سلمي على رومي»... كم هناك من عائلات فجعت بموت أطفال كانوا يرون الدنيا من عيونهم؟ كل تلك العائلات همست البارحة في أذن نعش نايا حكايات وحكايات مع موتٍ أتاهم على غفلة. وأرسلوا معها سلاماً الى فلذات الأكباد في السماء وأمنية: «طلوا علينا من بين الغيمات».
هو الموت الطائش، برصاصة طائشة، أصابت نايا وقتلت تاتيانا واكيم الصبية التي كانت تستعد لعرسها وقتلت أما لأربعة أولاد وأصابت طائرات الميدل إيست في مطار رفيق الحريري وقتلت أكثر من سبعين ضحية في أقل من عشرة اعوام وسببت إعاقات شتى وأدت الى سيول من الدموع. في 2021 وحدها بلغ عدد ضحايا الرصاص الطائش - بحسب الدولية للمعلومات - سبعة وعدد الجرحي خمسة عشر. لكن، ماذا عن المجرمين القاتلين؟ هم طائشون؟ ضائعون؟ لماذا لا توقف الدولة مطلقي هذا النوع من الرصاص الذي كلما سكر أصحابه بفرحٍ فائض تسببوا بشربِ آخرين كأس الموت؟
الوداع
نعود الى نايا، هي تشبه - أو كانت تشبه - شكلاً والدتها كثيراً. كانت تضحك وتلعب وتمرح وطبعاً تحلم. والعائلة، التي تحرص على أن تبقي حزنها لنفسِها، سبق وعاشت تجربة الموت المبكر مع ابن كارين، شقيقة الوالد جان، ويدعى إيلي. أصبح للعائلة ملاكان في السماء. ولم يعد الموت منذ الآن مرعباً الى هؤلاء فالحياة أشدّ رعباً. ننصت الى أقارب نايا. نراقب من بعيد - حسب مشيئة الأهل - نعش الطفلة الناصع البياض المزيّن بالورد. نراقب في الأرجاء. الزهور البيضاء في الوداع لها وقع آخر. الوالدة تتكئ على مواسين. الوالد يتكئ على صلابة مهددة بالإنهيار. كل شيء يدمي القلب. ننسحب من المكان تاركين الأهل والأقارب والمعارف يعيشون اللحظة بحرية. نعود أدراجنا الى الغابة الواسعة. نترك نايا ترتاح حيث أصبحت مع الملائكة والقديسين. نغادر وفي القلب غصّة وفي العين دموع. لم نتعرف على نايا في حياتِها لكنها أصبحت في 23 يوماً إبنة كثير كثير من اللبنانيين.
في الخارج، ها نحن نسمع الآن صراخاً كثيراً... في أحد الشوارع المتفرعة من منطقة الجديدة - المتفرعة من الزعيترية - كثير من الصراخ... وهناك، في الموازاة، صراخ عشوائي من البيوت: فوتوا لجوا أحسن ما يطلع رصاص! فمن يدري من يكون (أو تكون) الضحية المقبلة؟
الغضب الراقي ساد البارحة. فهل نحن بحاجة الى غضب من نوع آخر كي لا تكون نايا إسماً على لائحة تطول وتطول وتطول؟ يقال أنه حين تغضب النعاج كثيراً تصبح أشد افتراساً من الذئاب. فليحترس المفترسون في غابة الدولة.
في القانون...
ولد قانون رقمه 2016/71 يُجرّم إطلاق العيارات النارية في الهواء، ويعاقب بالسجن من ستة أشهر الى ثلاث سنوات، وقد تصل العقوبة الى الاشغال الشاقة لمدة عشر سنوات وبغرامة من 20 الى 25 ضعف الحد الأدنى للأجور في حال أدى إطلاق النار الى الموت (أي ما بين 13,5 مليون ليرة و16,8 مليون ليرة). بربكم هل تكفي هذه العقوبة لأخذ حقّ نايا؟ على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ نايا قتلت. قاتلها قد يموت برصاصة طائشة أيضاً. من يدري؟ فنحن في برّية وفي البراري كل شيء مباح.