وليد شقير

طلال سلمان ورفض الإستحواذ

28 آب 2023

02 : 00

خلال التشييع في شمسطار

اعتاد طلال سلمان، كلما رحل صديق أو غاب قريب، أن يبدأ رثاءه باستعارة عبارة ترجّل الفارس... إلى أن ترجل فارساً لأحلام القومية والدفاع عن المظلومين بعد عقود رائداً في الصحافة 42 عاماً منها في مشروع «السفير».

لم يكن شعار الصحيفة، «صوت لبنان في الوطن العربي وصوت الوطن العربي في لبنان»، و»صوت الذين لا صوت لهم»، مجرد عبارة دعائية لمطبوعة احتلت فور صدورها عام 1974 في سرعة قياسية مرتبة متقدمة في التصنيف اللبناني والعربي، بل كان فعلاً يومياً، تتولى ترويسة الصفحة الأخيرة التي تقتطع قولاً مأثوراً من خطابات جمال عبد الناصر، التذكير به.

يتجاهل البعض تاريخ الرجل الذي لازم قناعاته حتى النهاية، ويقتطع البعض الآخر قصداً أو عن قصور بالمعرفة، ما يناسبه من مرحلة تقلبت فيها أحوال الصحافة من عصرها الذهبي، مراسلاً في «الصياد» وصولاً إلى أفول مطبوعات عدة لصعوبة التمويل. اختار منذ الأعداد الصفر، لمشاركته قيادتها، إثنين من الصحافيين العرب كمديرين للتحرير، المرحوم ابراهيم عامر الآتي من التجربة الإعلامية المصرية، وبلال الحسن، المتحدر من الإعلام الفلسطيني الملتزم، ومديراً عاماً هو سليل حركة القوميين العرب ياسر نعمة، ثم استعان بمحمد المشنوق وبعده بأسعد المقدم... والفنان المصري الفذّ حلمي التوني الذي صمّم الحمامة البرتقالية رمزاً للجريدة ومحيي الدين اللباد... ورفيقه رسام الكاريكاتور الفنان بهجت عثمان وكذلك الكاتب والصحافي واسع الأفق، المصري مصطفى الحسيني، فيما ميّز الراحل والمناضل الفلسطيني منذ التأسيس، رسام الكاريكاتور الملتزم، الراحل ناجي العلي، «السفير» برسم «حنظلة» الذي تحوّل أيقونة عالمية، فيما اجتذبت علاقات طلال، وفي المقدمة عمود الكاتب والمسرحي السوري اليساري الراحل سعد الله ونوس في الصفحة الأخيرة، سيلاً من الكتاب العرب، المغربيين والمشرقيين، إلى الرأي والثقافة اللذين تحولا إلى منبر مشاهير افتقدوا الحريات فيها. لا تتسع هذه السطور لذكر أسماء الصحافيين والكتاب العرب الذين جسدوا عروبة طلال سلمان في أقسام الأخبار العربية والدولية والثقافة والرأي، إما نتيجة صداقات نسجها خلال عمله في «الصياد» متنقلاً بين العواصم للتغطية والمقابلات، أو جراء اكتشافهم منبراً لبنانياً منفتحاً على قضاياهم. لبنانياً ليس تفصيلاً إطلاقه «السفير» بمواكبة صعود «الحركة الوطنية اللبنانية» بزعامة كمال جنبلاط وبروز حركة طلابية ناشطة من خليط يسار اشتراكي وليبرالي ويمين منفتح ووسطي. جمع هذا الصعودان، اللذان رافقهما صعود ثالث لحركة المحرومين بقيادة الإمام المغيّب موسى الصدر وتحلّق سياسيين من كل الطوائف حوله، التوق إلى بناء قدرات لبنانية دفاعية بمواجهة اعتداءات إسرائيل، وتغييراً ديموقراطياً للنظام الطائفي وعدالة اجتماعية. من رحم المشهد السياسي، ضم طلال سلمان إلى «السفير» صحافيين لبنانيين تأسست غالبيتهم على قواعد المهنة «التقليدية» المخالفة لسهولة الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي، في الأقسام السياسية والاقتصادية، فأوكل إدارة التحرير تباعاً إلى محمد مشموشي وباسم السبع، شوقي رافع، جوزف سماحة والياس الخوري... ورئاسة القسم السياسي إلى العتيق ميشال الحلوة، يعاونه محررون من المشارب السياسية والطائفية كافة، رفدتهم كتابات رجال السياسة من الأحزاب في الصفحة الأولى وغيرها، أمثال المفكر المبدع سمير فرنجية، رئيس الحكومة السابق سليم الحص، جوزيف أبو خليل، السيد هاني فحص، كريم بقرادوني، حبيب صادق، ورضوان السيد ووزراء ونواب ناهيك عن تولي كل من فواز طرابلسي، عباس بيضون، حازم صاغية، حسن داوود، جهاد الزين وابراهيم العريس مسؤوليات صفحات...

حوّل الانفتاح الذي توجبه قواعد المهنة والتدقيق بالأخبار ومواكبتها، مكتب صاحبها ورئيس تحريرها إلى صالون سياسي متنوع من ميشال إده وبيار حلو وجان عبيد إلى محسن ابراهيم وجورج حاوي وفؤاد شبقلو وتوفيق سلطان... هذا الخليط سمح ببيعها آلاف النسخ بعد أسابيع من العدد الأول، في جونية مثل بيروت والنبطية وطرابلس وسائر المدن. وسمح حرصه على التنوع في التحرير، لعاملين فيها أن ينتقدوا بعض افتتاحياته وأحياناً أن يدفعوه لتعديلها.

مع نجاح «السفير» السريع، بسعر ربع ليرة، لم يحل خضوعها للاستقطاب السياسي الذي داهمها، كسائر المؤسسات باندلاع الحرب، دون انتقاد أخطاء ممارسات أحزاب الحركة الوطنية، وتجاوزات المنظمات الفلسطينية، ومهاجمة الحكم، فنالت حصتها من القمع الذي واجهته بشجاعة، ولم تقوَ على آثار اقتحام الجيش السوري مكاتبها أسوة بـ»النهار» عام 1976 واعتقال اثنين من كبار محرريها ومصادرة أرشيفها، ونجا طلال بأعجوبة من محاولة اغتيال بالرصاص، تركت آثارها في وجهه وفكه. أبو عمار دأب على زيارتها إبان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 لمناقشة محرريها بالمستجدات، وحرص على وداع محرريها عشية مغادرته بيروت بحراً إلى تونس. بانتهاء الحرب ساعد إدراك «إبن الدركي» لحساسية ودقة التركيبة اللبنانية مناطقياً وطائفياً جراء ترحاله يافعاً مع والده للخدمة في مخافر مناطق لبنانية متباعدة، من طرابلس إلى الجبل والجنوب، على استدراك ما أفرزته من انقسامات، بمرافقة جهاز التحرير إلى المرجعيات السياسية بلا استثناء للانفتاح على أطياف المجتمع. وربما لذلك افتقد أحد قدامى «السفير» العلم اللبناني أثناء تشييع طلال سلمان إلى مثواه الأخير أول من أمس، إلى جانب ثلاثة أعلام لـ»حزب الله» وعلمين لفلسطين.

تجنّب أكثر من مرة إقفال «السفير» لتراجع التمويل، واضطر لبعض التنازلات مقابل الإنقاذ المالي، من دون خسارة نسبة من مهنية اللهاث وراء الخبر والاستقلالية، لكنه في عام 2016 فضل وقف الإصدار على الانصياع لشرط «الاستحواذ» (بدل المراعاة)، فتوقفت رئتاها لتلحق بها رئتاه.


MISS 3