تنتظر غالبية الكتل النيابية نهاية العطلة الصيفية ربما يحدث أي تطوّر إقليمي ودولي يُسهّل إنتخاب رئيس، ويبدو واضحاً عدم الحماسة لأي حوار لأن التباعد بين «حزب الله» والحلفاء والمعارضة كبير جداً، بينما بدا لافتاً أخيراً كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيث انتقد لأول مرة التدخّل الإيراني في لبنان وتأثيره السلبي في المسار السياسي.
«بقّ» ماكرون البحصة أخيراً، ففي كلمة ألقاها في اللقاء السنوي مع الديبلوماسيين في الإليزيه، أوضح أنّ أي حل سياسي في لبنان يتطلّب تفسيراً حول التدخلات الإقليمية حيث لإيران دور كبير، إذ تسبّبت بعدم الاستقرار في المنطقة من خلال أنشطتها، وأي تصويب يتطلّب توضيح سياسة إيران تجاه جيرانها بمن فيهم إسرائيل وأمنها، ولبنان واستقراره. وفي سياق الحديث، شكر مبعوثه الخاص إلى لبنان جان إيف لودريان على جهوده في سبيل إيجاد الحلول القصيرة المدى.
وتُعتبر كلمة ماكرون إشارة مهمة إلى تبدّل مقاربته للملف اللبناني بعدما حاول التماهي مع السياسة الإيرانية في لبنان عبر «حزب الله» وفتح الباب لمرشح «الثنائي الشيعي» رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، ودرس حظوظه الرئاسية مع الأفرقاء الآخرين، وتبنّي فكرة الحوار التي طرحها «الثنائي» والتي لم تلقَ قبولاً من المعارضة اللبنانية على أساس أنّ ما هو مطروح ليس حواراً، بل فرض أسماء، وقد أثبتت التجارب السابقة أنّ الحوار مع من يحمل السلاح يؤدي إلى أعراف جديدة لصالحه بعيدة عن الدستور وتؤسس لأزمات أكبر.
يعترف المطّلعون على الموقف الفرنسي أنّ فشل سياسة ماكرون في لبنان في السنوات الماضية كان بسبب محاولاته المتتالية مسايرة المصالح الإيرانية وتموضعه في الوسط بين الدور التوسعي لإيران وحلفائها، وبين من يحاولون لملمة الدولة وإعادة تكوينها.
ضُربت مصداقية ماكرون بعد إفشال مؤتمر «سيدر»، وعدم تنفيذ الوعود بعد انفجار مرفأ بيروت والحُرم الديبلوماسي الذي وضعته العواصم الفاعلة، وعلى رأسها واشنطن والرياض، على ترشيح فرنجية ومحاولة لودريان الأخيرة عقد جلسات عمل حول الملف الرئاسي، والتي توّجت بخطأ ديبلوماسي تمثّل بمراسلة النواب مباشرة، مذكّرةً بحقبة الانتداب.
وكانت لافتة مبادرة كتلة «التنمية والتحرير» لإجابة لودريان خطياً على أسئلته الموجّهة للنواب، وبدأت تتبعها بعض الكتل الوسطية بحجّة الانفتاح على الحوار، أما كتلة «التيار الوطني الحرّ» فقررت وضع حدّ زمني للحوار تذهب بعده إلى عقد جلسات انتخاب مفتوحة. كل هذا خشية من الموقف الفرنسي المتّجه نحو التبدّل.
تؤكد المعارضة أنّ العبرة من الموقف الفرنسي الجديد هي أنّ السياسة الخارجية في لبنان تتبدّل بحسب ما يفرضه اللبنانيون من إرادة وما يحدث على مستوى المنطقة من تغيرات. وتسأل: هل اللعب في الوسط يُفيد هؤلاء اللاعبين الذين ينتظرون إشارات من الخارج أو يخشون إبداء رأي قد يكون مغايراً لإرادة بعض الدول؟ وماذا عن الرأي الذي عبّرت عنه اللجنة الخماسية في قطر، والذي تطرّق إلى مواصفات رئيس الجمهورية وضرورة انتخابه بحسب الدستور من دون التطرّق إلى الحوار؟ أليس في ذلك إشارة إلى المتردّدين مفادها أنّ هذه المقاربة لا تنطبق على دول اللجنة الخماسية؟ ألا يعتقد المترددون أنّ هذه المواصفات تتطابق ومواصفاتهم لرئيس الجمهورية؟ وماذا خدمت «الوسطية الحريرية» السياسية؟ وإلى أين أوصلتها وأوصلت البلاد؟
وفيما تتّخذ الوسطية شكلاً وطنياً جامعاً في الظروف الطبيعية، أصبحت عاملاً سلبياً في ظروف الانهيار، لأنها تساعد الطرف الذي يخرج عن الدولة بإعطائه مساحة ليتمادى فيها بأفعاله.
وفي قاموس القوى التي تتصدّى لـ»حزب الله»، لم تعد الوسطية فعلاً مؤثراً في ظل انهيار الدولة، إذ لا يمكن إنشاء نصف دولة بهدف إرضاء الجميع، وسط تأكيد دولي على الدور السلبي الإيراني عبر «حزب الله» في لبنان، مثلما أتى على لسان رئيس الجمهورية الفرنسي الذي يسعى إلى إيجاد حلول، والذي حاول مراراً مسايرة هذه الأطراف ولم ينجح.
واذا كان الذي يتموضع في الوسط يعتقد أنّ «حزب الله» سينتخبه رئيساً، فهو بذلك لا يقرأ إيران و»الحزب» جيداً، إذ لن يرضى «الحزب» بأي شخص وسطي غير خاضع تماماً لإرادته، وإلا لكان فتح المجال لذلك منذ زمن طويل، ولم يكن ليعطّل البلد أكثر من عامين لانتخاب العماد ميشال عون، وهو يعطّله الآن لانتخاب فرنجية. ولن يثق «الحزب» بأي شخص يتموضع في الوسط بهدف الوصول إلى الرئاسة أو الوزارة، لأنه يعلم أن لا قدرة لهذا على تقديم الولاء أو الضمانات الكافية. فما يقوم به بعض الوسطيين هو إعطاء قدرة أكبر لـ»حزب الله» على التعطيل وفرض معادلته.
ويبقى السؤال: هل يكتشف بعض الوسطيين، كما اكتشف ماكرون، أنّ هذه المقاربة لن تأتيهم بالنتائج المرجوة، فيخسرون الدنيا والآخرة، بين شعبيتهم المتهاوية وضعفهم في المعادلة السياسة؟