ألكسندر ج. موتيل

الرهان على روسيا السلميّة خاسر

1 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جندي روسي خلال دورية في مسرح ماريوبول الذي قصفته روسيا عندما كان يؤوي لاجئين مدنيين | أوكرانيا، 12 نيسان 2022

بدأ مؤيدو ومعارضو التفاوض على اتفاق مع روسيا لإنهاء حربها مع أوكرانيا يفكرون بالمستقبل. يراهن داعمو الاتفاق على إنهاء الحرب وإرساء سلام حقيقي عبر التفاوض، حتى لو لم تكن المفاوضات ترضي أهداف أوكرانيا باسترجاع كامل أراضيها. أما معارضو الاتفاق مع موسكو، فهم يتوقعون أن تُشجّع المفاوضات روسيا على استئناف عدوانها في المستقبل القريب، حتى لو أنهى ذلك الاتفاق القتال مؤقتاً. يرتكز كل فريق في رهانه على فرضيات مرتبطة بالحرب المستمرة. يظن داعمو المفاوضات أن الصراع وصل إلى طريق مسدود وأن انتصار أوكرانيا مستحيل. في المقابل، يظن معارضو التفاوض أن الوضع القائم ليس جامداً وأن انتصار أوكرانيا لا يزال ممكناً.

ما هي الفرضيات الأكثر واقعية، وما هو الرهان الأكثر أماناً؟ لنبدأ بمراجعة الفرضيات التي طغت على أوساط صانعي السياسة والمحللين الغربيين قبل أن تطلق روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا في 24 شباط 2022. ثمة استثناءات طبعاً، لكن انتشرت في البداية فرضيات مفادها أن أوكرانيا لا تستطيع تجنّب الهزيمة، ثم قيل إن التفاوض على تسوية هو المسار الوحيد لصمودها.

سرعان ما تبيّن أن الفرضيتَين خاطئتان. يحمل مؤيدو التفاوض اليوم فرضيات مشابهة على ما يبدو. هم يظنون أن أوكرانيا تعجز عن تحقيق الفوز ولا يمكن إنهاء الحرب إلا عبر الاتفاق مع روسيا. لا يعني ذلك تلقائياً أن هذه الفرضيات تبقى خاطئة اليوم بقدر ما كانت عليه في العام 2022. لكن إذا كانت الفرضيات نفسها خاطئة سابقاً، يُفترض أن تثير الشكوك على الأقل في المرحلة الراهنة.

بغض النظر عن وجود مأزق حقيقي اليوم، هل يستطيع الأوكرانيون الفوز عبر متابعة التحرك من دون تحقيق إنجاز مبهر؟ هذا ممكن شرط أن يتابع الغرب جماعياً تزويد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاج إليها. بعبارة أخرى، لا تتعلق الفرضيات التي يطرحها مناصرو التفاوض بالمأزق القائم أو بتحقيق الانتصار، بل إنها تعكس رأيهم بمدى استعداد الغرب لمتابعة دعم أوكرانيا. لا تعني فرضية الطريق المسدود بالضرورة أن الالتزام العسكري الغربي يتجه إلى التراجع لصالح التفاوض، بل العكس صحيح: يوحي الهدف من تقليص الالتزام الغربي، بغض النظر عن السبب، بوجود رغبة في إرساء الجمود ومنع أوكرانيا من الانتصار. نعرف أن أوكرانيا لن تتمكن من الفوز إلا بمساعدة الغرب منذ اليوم الأول للغزو المستمر.

ما هو الرهان الأكثر أماناً إذاً: أن تنتج المفاوضات السلام أم أن تؤخر المرحلة المقبلة من الحرب الروسية بكل بساطة؟ تبقى التوقعات والتخمينات سيّدة الموقف، وأفضل ما يمكن فعله هو التوصل إلى استنتاجات أكثر عقلانية من الخيارات البديلة. بعبارة أخرى، يُفترض ألا يصدّق أحد اقتراحات المحللين بسهولة. لا بد من التشكيك إذاً بجميع التوقعات وبغض النظر عن من يطرحها.

للتحقق من المنطق الكامن وراء الفرضية المرتبطة باحتمال إرساء سلام دائم عبر التفاوض على تسوية (ما يعني تقييم مدى استعداد روسيا للالتزام بهذا الاتفاق)، يمكننا أن نراجع التاريخ، ونقارن الوضع بظروف مشابهة، ونتكل على نظريات العلاقات الدولية. تعود المسألة دوماً إلى روسيا، إذ لا يتوقع أي صانع سياسة أو محلل جدّي أن تعيد أوكرانيا إشعال الحرب بعد إنهائها عن طريق التفاوض.

يحمل تاريخ روسيا دلالات بارزة، فهو يرتكز حتى اليوم على التوسّع المتواصل. بدءاً من القرن الخامس عشر، قامت دوقية موسكو (سمّت نفسها لاحقاً روسيا) بالاستيلاء على الأراضي في جميع الاتجاهات تدريجاً كي تصبح أكبر بلد في العالم. لم تخفّ تلك النزعة التوسعية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، علماً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعتبر ذلك الانهيار علناً انتكاسة مؤقتة. عادت بيلاروسيا إلى سيطرة الكرملين بشكلٍ شبه كامل، وأعاد البلد احتلال أجزاء من جورجيا ومولدوفا، وأصبحت أوكرانيا مجدداً هدفاً لمشروع روسيا الإمبريالي المتواصل. قد لا ينذر الماضي بأحداث المستقبل بالضرورة، لكن تحمل البلدان تقاليد وديناميات معينة في سياستها الخارجية ويُفترض ألا يتجاهلها أحد.

يحمل تاريخ قوى عظمى أخرى وإمبراطوريات سابقة دلالات مهمة أيضاً. أقدمت الولايات المتحدة، خلال حملتها التوسعية المكثفة، على انتهاك المعاهدات التي وقّعت عليها مع الأميركيين الأصليين. كذلك، تجاهلت ألمانيا في عهد فيلهلم الضمانات التي قدّمتها للحفاظ على حياد بلجيكا. وتجاهلت ألمانيا النازية بدورها اتفاق ميونيخ في العام 1938، علماً أن رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين اعتبره ضمانة لإرساء السلام في ذلك العصر. في غضون ذلك، تعجّ كتب التاريخ بمعاهدات تبيّن أنها مجرّد استراحة مؤقتة بين الحروب. باختصار، لا تهتم القوى العظمى، بغض النظر عن نوع أنظمتها، بالاتفاقيات والمعاهدات التي تثقل أعباءها.

تتعلق المراجعة المنطقية الثانية بسلوك موسكو في ظروف مشابهة: هل يحمل الكرملين تاريخاً في الالتزام باتفاقياته مع أوكرانيا؟ ضمنت روسيا مرتَين حرمة الحدود الأوكرانية المتعارف عليها دولياً، بما في ذلك شبه جزيرة القرم: المرة الأولى عبر مذكرة بودابست في العام 1994، والمرة الثانية عبر معاهدة الصداقة بين أوكرانيا وروسيا في العام 1997. لكن اتّضح الآن أن بوتين لم يكن ينوي يوماً أن يلتزم باتفاقيات مينسك التي كان يُفترض أن ترسّخ السلام بعد أول حرب روسية أوكرانية في العام 2014. تبقى التفاصيل غامضة بقدر أي معلومات تصدر من روسيا في الوقت الراهن. لكن إذا تبيّن أن رئيس مجموعة «فاغنر»، يفغيني بريغوجين، قُتِل فعلاً، ستتضح أيضاً طريقة تعامل بوتين مع الاتفاقيات التي يتم التفاوض عليها. هو أبرم اتفاقاً مع بريغوجين حين كان النظام ضعيفاً، ثم انتظر اللحظة المناسبة كي يتراجع عن الصفقة لأخذ انتقامه.

أخيراً، يمكننا أن نراجع نظرية العلاقات الدولية، أو مجموعة متنافسة من النظريات. تُركّز النظرية الواقعية مثلاً على التوازن القائم بين القوى الكبرى ونطاقات نفوذها المزعومة، وهي تستنتج أن أوكرانيا تنتمي طبيعياً إلى المحور الروسي ولا تملك أي فرصة للتفوق على جارتها القوية، شرط أن يوقف الغرب مساعداته طبعاً. ليس مفاجئاً إذاً أن يكون المحللون الواقعيون من أوائل من يدعون الغرب إلى إعادة ضبط العلاقات مع روسيا، وكبح تسليم الأسلحة أو إلغائها بالكامل، والضغط على أوكرانيا للتنازل عن الأراضي المحتلة. من وجهة نظرهم، يقضي أفضل اتفاق قد تستفيد منه أوكرانيا بوقف إطلاق النار والاحتفاظ ببقايا دولة.

لكنّ الواقعية ليست المقاربة الوحيدة في هذه الظروف. يظن عدد كبير من المحللين أن السياسة الخارجية لا تتحدد بكل بساطة بحسب مكانة الدولة الجيوسياسية، بل تتأثر أيضاً بالسياسات الداخلية، والعوامل الإيديولوجية، وعناصر أخرى على الأرجح. وفق هذه الفرضية، لا تكون السياسة الخارجية مجرّد نتاج لمكانة الدولة في التسلسل الهرمي للسلطة، بل إنها تنبثق أيضاً من إيديولوجيا النظام والمهام الوطنية التي يتمسك بها الشعب أو النخبة الحاكمة. تتّضح هذه الأنظمة من القناعات في مبدأ «القدر المتجلي» الأميركي، والفكر الاستعماري البريطاني في قصيدة White Man’s Burden (عبء الرجل الأبيض)، والمهمّة الحضارية في فرنسا، وصورة «القوة العالمية» التي حملتها ألمانيا عن نفسها في عهد فيلهلم، ومفهوم «الوطن» الذي تبنّته ألمانيا النازية، والنظرية السوفياتية عن الثورة الشيوعية العالمية، وصولاً إلى مفهوم روما القديم عن «السلام الروماني». تتماشى روسيا المعاصرة اليوم أيضاً مع فكرة بوتين عن العالم الروسي الذي يمتد إلى ما وراء حدود بلده والقناعة الروسية الثقافية التي تعتبر الوطن فريداً من نوعه، ومتفوقاً على غيره، ومخولاً لحُكم أرضٍ يسكنها غير الروس.

يظن محللون آخرون أن النزعة التوسعية في روسيا المعاصرة تشتق من انهيار الاتحاد السوفياتي بطريقة مفاجئة وشاملة في العام 1991. على عكس الإمبراطوريتَين البريطانية والفرنسية، حيث أعطت خسارة الأراضي التدريجية لمركز السلطة الإمبريالية الوقت الكافي للتكيّف مع الحقبة غير الإمبريالية، احتفظت الإمبراطوريات التي انهارت دفعةً واحدة بفكرها الإمبريالي وبجزء كبير من الروابط المؤسسية والبنيوية التي كانت الإمبراطورية القديمة تقيمها. يحمل انهيار الإمبراطورية الألمانية فجأةً في العام 1918 دلالات بالغة الأهمية في هذا المجال: شكّل الفكر الإمبريالي القوي الذي تزامن مع مشاعر البغض بسبب خسارة الأراضي والمكانة المرموقة خليطاً ثقافياً وسياسياً ساماً كان كفيلاً بتأجيج حرب النازيين الإمبريالية. عند مقارنة الظروف الراهنة بتجارب تفكك الإمبراطوريات سابقاً، لا شيء يجعلنا نتوقع أن تتخلى روسيا اليوم عن نزعتها الإمبريالية المتجددة بعد التفاوض على تسوية مع أوكرانيا، حتى لو حصلت روسيا على بعض الأراضي الأوكرانية كمكافأة.

لهذه الأسباب، يقوم المعسكر الذي يدعو إلى التفاوض على تسوية فورية برهان محفوف بالمخاطر. لا يقف التاريخ ولا المقارنات ولا معظم النظريات إلى جانبهم. يوصي هؤلاء أوكرانيا بالمجازفة بقدرتها على الصمود مقابل أمل ضئيل بأن تتصرف روسيا بالشكل الذي يتوقعه عدد صغير من الأكاديميين. لا يعني ذلك أنهم مخطئون، لكن تكشف معظم الأدلة المشتقة من السوابق التاريخية، وتصرفات الأنظمة، والإيديولوجيا الوطنية، ونظرية العلاقات الدولية، غياب أي سلام مستدام يمكن التفاوض عليه.

أخيراً، تتكل الدول على تجاربها التاريخية الخاصة، لا الأفكار النظرية المتكررة. بشكل عام، يخاف جيران روسيا من موسكو ولا يثقون بها، وهم محقون في موقفهم. وتملك أوكرانيا بالذات أسباباً وجيهة للتشكيك بنوايا روسيا ووعودها بإرساء السلام. من الأفضل على الأرجح أن يتساءل صانعو السياسة والمحللون في الغرب حول استعدادهم لتصديق موسكو إذا كانت روسيا تقع في جوارهم، أو إذا أقدمت على احتلال أراضيهم، أو كانت تحكمهم تاريخياً، وإذا كانت رهاناتهم على المستقبل تتعلق باستمرار وجودهم.


MISS 3