نوال نصر

غداً يوم شهداء المقاومة اللبنانية في معراب

رفاقٌ يتحدثون عن رفاقٍ: هذا مفهومنا للموت والقبور والدموع والخلود والإنتصار

2 أيلول 2023

02 : 00

وردة حمراء... و"باقيين"

...وانطلقت الحرب. وفي أوقات الحروب يدفن الآباء أبناءهم. فهل هناك بربكم ما هو أكثر فظاعة؟ ربي أبعد عنا هذه الكأس... ردّد كثيرون... لكن الله غادر يومها الأرض وتركها للشيطان فوجد شباب قيل عنهم: توتو وفوفو ورورو... أنفسهم وجهاً لوجه مع الشيطان. فهل يستسلمون؟ هل يشاهدون الذلّ والإستيلاء على الأرض والعرض ويسكتون؟ هبّ الشباب دفاعاً وكان ما كان. شهادات الوفيات عامت، والدموع أصبحت شلالاً، وعدد النجوم في السماء زادت، وأصبح لشروق الشمس معنى آخر، وبات الموت خلوداً. مات من مات واستشهد من استشهد وتراكمت اللحظات وأصبحت كتباً للتاريخِ. يا الله. يا لدموعِ الأمهات والآباء وصلواتهم. ويا للشباب الذين حملوا «دمن بكفّن كل ما الدني شتت نار». فهل يستحقّ الوطن كل سيول الدمّ التي روت الأرض؟ وهل يكفي أن يُقال لأمّ الشهيد: إبنك بالسماء كي ترتاح؟ في أيلول، في كل أيلول، نصلي لتبقى شهادتهم إيقونة ونتأكد أكثر فأكثر- على لسان رفاق الشهداء أنفسهم- أن الشهادة الحقّة خلود.



غداً، يوم الأحد، تقام الذبيحة الإلهية لراحة أنفس شهداء المقاومة اللبنانية. قداس وصلوات وكلمة وغصّة واشتياق وحكايات حكايات تستحقّ أن تروى للتاريخ. بيار جبور، رياض عاقل، فادي الشاماتي، ريمون ناضر، جورج لبنان جعجع ومنير ضوّ رووا فصولاً من حكاية الحرب ومفهوم الإستشهاد والموت والقبور والأبدية والدموع والإنكسار والإنتصار، وعن حضور مار شربل والعذراء في حياة الشباب كما الدم في العروق.







شاهَدَ... تألّمَ... أُصيب

ننظر صوب السماء، نحدّق في النجوم. الشهداء نجوم الليل. الشهيد هو من مات في وطنه لأجل أهله ووطنه وقضيته. هو الإنسان الكامل. هو من مات لنبقى. بيار جبور، إبن عمشيت، الصدم لا الصدامي، كان بعمر ثلاثة عشر عاماً يوم اندلعت الحرب في لبنان في 13 نيسان عام 1975. كان، في المفهوم العام، طفلاً. ويومها سمع والده يقول: هناك حادث بين لبنانيين وفلسطينيين في بيروت. لم يفهم ماذا (ولماذا) يحدث ما يحدث. وبمرور الأيام، بدأت عناصر القصّة تتضح أكثر. فهم بيار ورفاقه أن لبنان بات مشرعاً على اطماع. إنتسب الى خلية الطلاب في حزب الكتائب في مدرسته وهو بعد في الصف الأول متوسط. صار يسأل كثيراً ويسمع كثيراً. وفي حرب المئة يوم، في تشرين عام 1978، راح يراقب من تلة قرب البيت في عمشيت بيروت. شاهد سماء المدينة تضيء ثم تنطفئ أنوار الراجمات والصواريخ. على وقع الثواني. رآها تُدك بالقذائف. هي مشهدية قهرته، آلمته، أصابته في الصميم، وأحدثت فيه تبديلاً كبيراً، فقرر قبل أن يضع رأسه على وسادته في تلك الليلة الإنتساب الى حزب الكتائب. لم ينتسب لأنه حزب الكتائب بل أراد أن ينتمي الى مكان ما يُمكّنه من «الدفاع عن لبنانه وبيروته وجبيله وكسروانه وحريته».

حال بقية الشباب تشبه حال جبور نفسه. رياض عاقل، إبن الأشرفيه، كان يوم بدأت الحرب بعمر أربعة عشر عاماً. كان يسكن في منطقة مار مارون في الجميزة، التي أصبحت فجأة خط تماس. رأى الحرب تزحف نحوه. رأى أشكال الموت وهو بعد طفل. صار يتسلل ليلاً الى الخط الأمامي ويقف مشاهداً الشباب المندفع لردّ الإعتداء. إنتسب الى الأشبال وتدرّب على استخدام السلاح. حصلت حرب المئة يوم ثم حرب السنتين وأصبحت صور شباب كثيرين مؤطرة بالأسود على الحيطان. وأول شهيد كان يعرفه هو مارسيل جبور. رآه قد أصبح شهيداً في ثانية بعدما كان مليئاً بالأحلام. لم يعِ في تلك اللحظات مفهوم الشهادة الذي كان مجرد موت بالنسبة إليه. وفجأة، كثرت الصور المعلقة وزادت الهجمات ولم يعد نزيف الموت والإستشهاد يتوقف. يا الله كم كان وقع الموت شديداً على الأحياء. وما لا يعرفه كثيرون هو أن الشباب - الأحياء كانوا يبكون كثيرا مع سقوط كل شهيد. لم يكونوا صخوراً بل بشراً يحبون الحياة «كان يموت لنا رفاق في لحظة ويصبحون صوراً مؤطرة بالأسود».





أسماء وصور وقصص مقاومة... تستحق أن تروى



مؤطّرون بالأسود... ومكلّلون بالمجد والغار


ببركة الأمهات

فادي الشاماتي، أحد أركان سيدة إيليج، مثلهما ايضاً. كان بعمر 12 عاماً في بدايات العام 1976 (هو المولود في 22 تشرين الثاني العام 1964 يوم عيد الإستقلال). كان منذ صغره يستمع الى اغنيات فيروز «بحبك يا لبنان» ويقرأ شعر سعيد عقل والأمير فخر الدين. وفجأة سرى إسم لواء اليرموك في بلدته البترون. سمع أن اللواء زاحف على البترون و»فلتوا» المساجين فأيقن أن البقاء في دائرة الراحة لم يعد ممكنا فقرر الإنخراط في الدفاع عن الأرض والعرض. ويتذكر الشاماتي هنا أمه، التي ربته على حبّ لبنان، وهي تقول له: «روح يا إبني شارك في الدفاع وتذكر دائما انك إبن العذراء». وهذا ما كان. حمل السلاح ليدافع عن نمط العيش ومواجهة غرباء ينوون الإستيلاء على الأرض. إنتسب الى دورة في قسم البترون الكتائبي وأول سلاح حمله كان بندقية سلافيا التشيكية. وبحكم عمره الصغير كان يوضع في أماكن غير خطرة. الحرب بشعة والموت كما الشمس لم يكن ممكناً التحديق إليهما بسهولة.

ريمون ناضر، الذي أصبح لاحقا إبن مار شربل، كان بدوره يسكن في منطقة الجديدة، بالقرب من معارك تل الزعتر. كان يرى الموت فقرر أن ينخرط في المواجهة. ويقول «لم نكن نميّز حينها بين كتائب وأحرار وحراس أرز ولم يكن أمامنا خيار إلا الحرب. وكانت في منطقتنا بيوت لحزب الكتائب فانتمينا الى الكتائب كردة فعل على هجوم المسلحين الغرباء على منطقتي وأهلي». وأول شهيد سقط من معارفه كان إبن ترشيش كرم صدقه. حزن كثيراً عليه وولّد في أعماقه شعوراً بالغضب. صور الشهداء الذين دفعوا الى الحرب دفعاً عززت فيه إرادة المواجهة.



الدموع لم تنشف «من القائد إلى أم الشهيد»... كل شهيد



بيار جبور


جورج لبنان جعجع


رياض عاقل


فادي الشاماتي


منير ضو


ريمون ناضر


بينهم شهيد


سليم معيكي شهيداً


أولاد ـ رجال

جورج لبنان جعجع، إبن بشري، إقتحم بدوره غمار المواجهة. كان بعمر 13 عاماً حينها ويسكن في منطقة برج حمود، التي يفصلها عن منطقة النبعة، حيث يوجد الفلسطينيون، مقطع سكة الحديد. كان أهله، وأهل الآخرين، يحذرونهم: لا تقتربوا من هناك بعد الساعة السادسة. وقرر وهو يكبر مواجهة «البعبع». إلتحق في مخيم قريب وعاش حرب السنتين وأحداث 1978 وانتمى الى ثوار الشمال في زغرتا قبل أن يلتحق بالمجلس الحربي. ويتذكر «أول شهيد سقط الى جانبي كان شربل طوق في القنطاري ثم طوني فهد جعجع الذي كان الى جانب الحكيم (سمير جعجع)، على بعد مترين أو ثلاثة، حين استشهد في هجوم على الكورة». والصور المؤطرة بالأسود في روزنامته كثرت. أصبح رفاقه في السماء أكثر من أن يعدوا.

منير ضو، إبن محمرش، الحامل اليوم إصابته في يومياته، كان يوم بدأت الحرب بعمر 13 عاماً. كانت المعارك شرسة والهجومات تتتالى فقرر أن لا يقف متفرجاً. إنتسب الى ثكنة راشا- جبهة البترون. كان حينها شاباً مثل كل الشباب، شعره طويل ويرتدي على الموضة ومليء بأحلام لا حرب فيها ولا سلاح وموت واستشهاد لكن «كان لا بُدّ أن نواجه فدخلنا في «تونال» (نفق) طويل. حملت السلاح مع الكتائب ثم القوات. كان لا بُدّ من ذلك». يتحدث ضوّ عن البدايات قائلا «كل شيء له أسباب. والدي كان يعمل في شركة إترنيت في شكا ونحن نسكن في الهري. والحرب بدأت مع الفلسطينيين وحصل هجوم شكا وحصلت - أتذكر- حينها مجزرة بحقنا».

نسمع هؤلاء الشباب بدقة. لم يسعوا إلى الحرب وما أرادوها، بل كان لزاماً عليهم مواجهتها. كانوا شباباً يُمسكون ببنادقهم ساعات ويفترشون أقدام العذراء ساعات وساعات. هم أحبوا الحياة ودافعوا عنها ولم يختروا يوماً لا الحرب ولا الموت لكن بين الإستشهاد والشهادة للحقّ والحياة قرروا خوض غمار ما كان قد كُتب. فماذا عن مفهوم الإستشهاد في قاموس من كُتب لهم العمر؟

بيار جبور أصبح بعد توحيد البندقية ونشوء القوات قواتياً وتقدم في مسؤولياته العسكرية وأصبح آمر فصيلة متكلاً على أمرين: إرادة المواجهة والبقاء وثقافة إستمر ينهل منها عبر قراءاته الكثيرة. شهداء كثيرون سقطوا الى جانبه، الكتف على الكتف ويقول «كل شاب إختار الدفاع والمواجهة كان مشروع شهيد. ونحن ليس في قاموسنا أن نستشهد ونموت. كنا نريد الحياة. كنا نسعى كي نصمد أحياء. إنها ثقافتنا. وفي واحدة من المعارك على نهر إبراهيم، في 31 كانون الثاني، سقط الى جانبي الشهيد النقيب أكرم القزح (قائد الصدم آنذاك). دخلت شظية في الوريد فسقط شهيداً علي. وضعته أرضاً ونزعت عنه الدرع فوجدت الدماء تسيل منه. ونحن متجهون به الى المستشفى مات. الشهداء تتالوا. مشاعر كثيرة إجتاحت بيار جبور إمتزجت بين الغضب والحزن ويقول «لم نكن نحضر أعراساً بقدر ما نشارك في مآتم. وأعترف أن هذا ولّد في داخلي- كما في داخل الكثيرين- شعوراً يسمى في علم النفس بعقدة ذنب الناجي. كنت أقول لماذا هم لا أنا. هل كان بإمكاني فعل شيء، أي شيء، كي يبقوا احياء. شهدنا قساوة الحياة والحرب. سألت نفسي: من أجل ماذا استشهدوا؟ أين الدولة التي كان يفترض أن تحمينا؟ لماذا كان لزاماً علينا أن نترك مدارسنا ونستشهد؟ ليست هذه وظيفتنا في الحياة. كل تلك المشاعر أنتجت شعوراً بالنقمة في أعماقنا. تقاعست الدولة فاضطررنا نحن الى حماية مجتمعنا. لذلك، كنا ونستمر في المطالبة بدولة قوية تحمينا». ويتذكر «أول قداس شهداء المقاومة اللبنانية شاركت فيه على مستوى القوات اللبنانية كان في سيدة لبنان حريصا العام 1991. وكرّت السبحة. بتّ أشارك في إحياء هذا اليوم بينما الشهيد يحيا معي يومياً. كل يوم أتذكر رفاقي الشهداء وهم معي لحظة بلحظة في كل مقارباتي في هذه الحياة».

حافظ بيار جبور دائما على رباطة جأشه. لم يبك في الشكل أما قلبه فكان يعصر حزناً ويقول «في طبيعتي حساس أبكي بسهولة لكني كنت أمام كل شهيد أشعر بغضب عارم يمزقني. وكلما إنتقل أحد رفاقي شهيداً كنت افقد قطعة من قلبي وفكري وجسدي».

رياض عاقل يحدد من جهته الشهيد بكل شخص آمن ببلده واستشهد فيه من أجل البقاء. وهو في يوم الشهيد، في كل أيلول، يصعد باكراً الى الساحة ويبدأ في قراءة أسماء الشهداء، إسماً إسماً، ويبحث عن أصدقائه بين الأسامي. ويقول «أقرأ أحياناً أسماء عائلات بأسرها أصبح أفرادها شهداء. هناك أكثر من عشرين إسماً من عائلة واحدة. يا الله كم أعطى هؤلاء هذه الأرض دماءً لنبقى ونستمر. هؤلاء جميعاً قطع مني». هو يصلي لهؤلاء يومياً ويطلب منهم أيضا الصلاة لنا «دخيلكم صلوا لنا». يضيف «الشهيد مات كي نبقى نحن احياء. إستشهد كل هؤلاء من أجل قضية مقدسة. طوني رحيّم، صديقي، أحد الأسماء المعلقة. كنا «ديو» وأتذكر أنه في الثالث من أيلول (في نفس موعد قداس هذه السنة) قال لي: سأصعد الى جبهة سوق الغرب. كنت قد إستيقظت للتوّ فنظرت إليه فوجدته صورة غير واضحة أمام عيني. خفت. قال لي إذا متّ إهتم بأهلي. وأخرج مغيطة سوداء من جيبه وأعطاني إياها قائلا: هذه ستكون ذكرى مني. قلت له: ما هذا الكلام... حاولت أن أضحك لكلامه... قلت له: ستذهب وتعود. صعد. وهناك، أمام أوتيل كامل استشهد طوني. لم أصدق. لم أرد أن اصدق. طلبوا مني في الثكنة أن أذهب الى براد مستشفى أوتيل ديو لأتعرف على الجثة. لا أنسى ذاك المشهد ما حييت. كانت هناك رصاصة واحدة في جسده قتلته. ثم طلبوا مني أن أذهب لأخبر أهله. موقف صعب جداً. ذهبت. كانوا يسكنون في الطبقة الثالثة فسمعوا صوت الرناجر (الأحذية العسكرية) على الدرج فخرج والده. نظر الى عيني. كان دركياً طويل القامة يقف منتصباً مثل الدرع. لم يتفوه في البداية بكلمة بل إنتظر أن نقول له نحن ما لدينا. فقال له أحد الرفاق: طوني مصاب وهو الآن في المستشفى. أجابه الأب: يا إبني كنّ رجلاً وقل الحقيقة مات طوني؟ إستمريت في زيارة أهل صديقي ورفيقي طوني. وفي العام 2005 قررنا أن ننقل رفات الشهيد من مدافن مار مخايل الى مدافن العائلة في جزين. كان الوالد ما زال مثل الرمح. لكن، حين وصلنا الى هنا «فرط» الأب بالبكاء وبدأ يدقّ على باب القبر بقوة وهو يصرخ: حبيبي يا إبني... حبيبي يا طوني».

يا لقساوة ما كتب على هؤلاء الشباب. يتحدثون عن حرب ويتمنون أن لا تعاد ويسألون للمرة الألف: وين الدولة؟

16 رصاصة ونجا

فادي الشاماتي يملك أيضا قصصاً تستحق أن تروى. هو كان شاهداً على موت رفاق كثيرين ويقول «الموت بشع.

في واحد على ألف من الثانية تنتهي حياة شاب كان مليئاً بالأحلام. وأول ما كان يلحّ في بالي في كلِ مرة يستشهد فيها رفيق هو وجه امه. كنت أفكر بهنّ وأردد: الله يساعدهنّ. وكيف يمكن ان يتحملن الخبر. أسئلة صعبة لا اجوبة عنها». ويستطرد: «في حرب الإلغاء تمكنت من سحب شاب، رفيق، من آل البدوي، جان البدوي، من قنات أكل 16 ضرب رصاص ونجا. كان يزن أكثر مني بخمسين كيلوغراماً على الأقل. صدقيني فكرتُ في تلك اللحظات بأمه. إنه على تماس يومي مع الشهداء. هو يمضي وقته في إيليج، دير سيدة إيليج في ميفوق، ويقول: «أصلي لهم وأكثر ما يزعجني حين أسمع من يقول: ضيعان اللي راحوا. هؤلاء إستشهدوا في واجب مقدس، قدموا أنفسهم فداء عنا، ولو لم يستشهدوا لما بقينا. أسمع من يقول: البلد عاطل والغربة حلّ. هذا ليس صحيحاً أبداً. ليس مسار الشعوب دائماً أبيض وزهرياً ومن يواجه من الشعوب هو الذي يبقى» يتابع: «البطريرك بشاره الراعي هو أول من سمى شهداء المقاومة اللبنانية بالإسم. قال عنهم إستشهدوا لأجل الوطن وماتوا لنحيا». نترك فادي الشاماتي يعود الى أعماله في أرجاء سيدة إيليج التي إحتضنت رفات 180 شهيداً منهياً كلامه متوجهاً الى رفاقه الشهداء: «بحبكم كتير ولن أنساكم».



التضحية محبة

من جهته، لريمون ناضر قصته مع المقاومة اللبنانية والإستشهاد والصلاة. هو يصلي يومياً من أجل لبنان والشهداء والجرحى والمنكوبين. هو عاش إختبار الله يوم ذهب الى محبسة مار شربل في عنايا ومعه إنجيل وخمس شمعات فشاهد نوراً رائعا ونال علامة من القديس على زنده الشمال: أصابع يد مار شربل اليمنى طبعت على ذراعه. ماذا عن إختبار الحرب ومفهوم الشهادة في حياته؟ يقول: «جوابي ليس كلاسيكياً وقد يكون مزعجاً. الإستشهاد بالنسبة لي هو السبب الذي دفع الشهيد إلى الإمساك ببندقية والمواجهة. شهداؤنا حاربوا محبّة بمن هم وراءهم وليس كرهاً بمن هم امامهم. هم ضحوا والتضحية محبة. إنها مدخل الى الشهادة الحقيقية. هذه هي الشهادة الحقّة. وكل من استشهد حباً بمن يدافع عنهم هو شهيد المحبة. المصلوب قدم ذاته ذبيحة في سبيل الآخرين. وليس هناك حب أعظم من ذلك». يتمهل ناضر في الكلام متذكراً: «خسرنا في الحرب أحباء كثيرين وصداقات حميمة. سليم معيكي أحد الذين استشهدوا حباً بالآخرين. ويومياً أحمل كل الشهداء في صلاتي».

كلامٌ الشباب يتردد في صداه: «إن لبنان وطننا وفيه باقون، إن مجتمعنا عظيم وله عاملون، إن إنساننا طيب ومن أجله مستشهدون».

جورج لبنان جعجع، يقلب بين صور الرفاق ويقول: هناك عشرة شهداء على الأقل في الصور التي بين يديّ ويبدأ في تسمية من بقوا في قلب قلبه: «غابي كيروز وإدمون سكر وغابي ناصيف كيروز وإيلي سكر ومروان عيد... ولائحة الشهداء طويلة... كنت أشعر بالحزن ثم بالغضب. لا أحد يذهب الى الحرب ليموت. كلنا كنا نذهب مقتنعين أننا سنعود. وعرفنا دائما أن الوطن حقه دمّ. أصبت خمس مرات وأنا معوق حرب. أصبح لديّ «إجر ونص». كنت أخجل من الإصابة في البداية لكنني أدركت لاحقا- كما قال لي الكثيرون- أن إعاقتي وسام على صدري. ويستطرد: أصلي يومياً لرفاقي وخصوصا لمروان (الشهيد مروان عيد) الذي لو لم يستشهد هو لكنت انا الشهيد أو أنتِ أو أنتم. كانت هناك فاتورة يجب أن تدفع فدفعها شهداؤنا الأبطال. ولهم أقول: لا تظنوا أننا نتذكركم يوماً في السنة. نحن نتذكركم 365 يوماً». وقبل أن ينهي جورج لبنان جعجع كلامه يقول: «والدي يدعى لبنان وابنتي لبنانا. وقضيتنا هي لبنان الذي يشبهنا دائماً أبداً».

منير ضوّ، المحارب أيام الحرب هو اليوم مختار محمرش، وهو لا ولم ينس رفاقاً أصبحوا شهداء ويقول «بكيتُ كثيراً عليهم. وذرفت دماً على جوزف سلوم». ويستطرد: «أقسى ما سمعناه: فلان مات فشو طلعلو؟ يؤلمني مثل هذا الكلام لأنني أعرف أن شهادة هؤلاء مكنتنا من الصمود والبقاء. وكل ما نتمناه اليوم هو العدالة في ظلّ وجود دولة. وإذا لم تولد الدولة العادلة فالجميع سيكون خاسراً».

هو أيلول. رائحة الأرض طيبة. ثمة دماء زكية سقت الأرض التي تفوح منها في أيلول، مع مطر نهايات الصيف، رائحة الرياحين والبخور والغار. وفي أيلول هذا صلوات واناشيد وحب كثير وأصوات تنادي: «وحقّ الأرزة الـ عم نرويها بالدم وبدموع الإم... شعلتكن ما رح نطفيها لو بتشتي الدنيي همّ». الله، الله، من أيلول.


MISS 3