كريم مروة

وجوه وأعلام

الثلاثي اللبناني رفيق جبور وأنطون مارون وفؤاد الشمالي

5 أيار 2020

02 : 00

أستحضر أسماء ثلاثة لبنانيين من رموز تاريخنا القديم هم رفيق جبور وأنطون مارون وفؤاد الشمالي الذين هاجروا مع عائلاتهم الى مصر وانتموا الى الاشتراكية، وشاركوا العام 1921 بتأسيس الحزب الاشتراكي المصري بقيادة المفكر الاشتراكي الرائد سلامة موسى ومعه رفيقه محمد عبد الله عنان. لكن الثلاثة شاركوا العام 1923 مع رفاقهم من المصريين في تأسيس الحزب الشيوعي المصري. وجاء التأسيس في صيغة انقسام بالحزب الاشتراكي الذي تأسس العام 1921. وجاء تأسيس ذلك الحزب تحت تأثير الأممية الشيوعية التي تأسست بقيادة لينين بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية. وكان الهدف دعوة من وقفوا الى جانب ثورة أكتوبر لتشكيل أحزاب شيوعية. إلا أن هؤلاء الثلاثة ورفاقهم من المصريين الذين شاركوا بتأسيس الحزب الشيوعي فوجئوا، العام 1924 بعد عودة زعيم الثورة المصرية سعد زغلول من منفاه، وتشكيل أول حكومة وطنية، بقرارٍ بحلّ الحزب الشيوعي واتحاد النقابات العمالية التابع للحزب وإدخال قادتهما الى السجون. وممن دخلوا السجن أنطون مارون الذي أضرب عن الطعام وتوفي في السجن. أما فؤاد الشمالي ورفيق جبور فأبعدا الى لبنان، الأول في العام 1924 والثاني في 1926.


رفيق جبور

ولد جبور في زحلة العام 1882. والده الطبيب حبيب جبور، نسيب الشاعر خليل مطران من جهة الأم. درس في المدرسة الشرقية وأجاد اللغتين الفرنسية والعربية. تزوج من الفلسطينية فريدة خياط. عينته أسرة "قاجار" الحاكمة بإيران قنصلاً لها في اسطنبول. وإذ اتهمه الباب العالي بتهريب الأمير فيصل بن الشريف حسين من اسطنبول إلى الحجاز أبعد إلى مصر. عمل فور وصوله إليها بالقنصلية الإيرانية في الإسكندرية، ثم انتقل إلى القاهرة بالوظيفة ذاتها. أغضبت المندوب السامي البريطاني أفكار جبور اليسارية، فاضطر للاستقالة من العمل الديبلوماسي وقرّر احتراف الصحافة، فاشتغل بجريدة "المحروسة"  ثم كمحرر بجريدة "النظام". وبعد ثورة 1919 اتخذت جريدة "النظام" موقفاً مؤيداً لسعد زغلول وحزب الوفد. واشتغل بعد ذلك محرراً في  "كوكب الشرق". يذكر ابنه روفائيل جبور أنه شاهد والده مراراً وهو يخطب بالساحات وبأن أباه اتهم في قضية مقتل السردار ومنزله فتش مراراً وأنه كان يتهكم على البوليس قائلاً: "سلاحي هو قلمي". وعندما حكم عليه بالنفي من مصر صاح في وجه القضاة "سأعود عندما تكون مشانقكم علقت في ميدان المحطة". في العام 1926 طُرد جبور وعائلته من مصر على ظهر باخرة أقلته من بور سعيد إلى بيروت. ورافقت شرطة السواحل المركب الذي حمله لمسافة عشرين ميلاً. وكان جبور يضحك قائلاً: "هل يظنونني سأعود لمصر سباحة؟". ولدى وصوله إلى بيروت كانت الشرطة الفرنسية بانتظاره فحذرته من العمل في السياسة. لم يبق في لبنان سوى بضعة أشهر، إذ غادر إلى فلسطين ليرأس تحرير صحيفة "فلسطين" لصاحبها عيسى العيسى ويواصل الهجوم على الاحتلال البريطاني لمصر وفلسطين. ولم تمض أشهر على وصوله إلى فلسطين حتى بلغ أهله نبأ وفاته إثر جراحة بسيطة أجريت له في المستشفى الفرنسي في يافا، وتردّد أنّ المخابرات البريطانية دبّرت قتله، خصوصاً مع إصرار السلطات البريطانية على رفض نقل جثمانه إلى لبنان خوفاً من تشريح الجثة. وفي نفس اليوم الذي أصدرت فيه محكمة جنايات الاسكندرية حكمها على أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في 6 تشرين الأول من العام 1926، كونت لجنة مركزية جديدة للحزب الشيوعي، وبدأت تقود العمل السري في ظروف صعبة. وكان أحد سكرتيري اللجنة رفيق جبور. لم تكن مجلة "الحساب" اليسارية المعروفة المنبر العلني الوحيد الذي حاول جبور النضال من خلاله. فمن المعروف أنه أسهم في ذلك التاريخ في تأسيس "لجنة الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين"، وهي لجنة جماهيرية تأسست خلال فترة الانتخابات النيابية العام 1925 لتنظيم عملية تقديم مرشحين من العمال والفلاحين في الانتخابات. وطارد البوليس اللجنة وصادر بيانها وبرنامجها ومنع طبعه وتوزيعه. مارس جبور الصحافة كوسيلة لنشر أفكاره وتوعية العمال إلى حقوقهم. ومارس نشاطه الفكري في جريدة "الحساب" هي التي مارس نشاطه الفكري والسياسي فيها بعدما أحياها لإعطائها الدور الذي يريده لها فأعطاها روحاً جديدة بدخوله فيها رئيساً لتحريرها، وجعلها عملياً الجريدة الناطقة باسم أفكاره الاشتراكية والناطقة في صورة غير مباشرة باسم الحزب الشيوعي الناشئ. لكنه مارس في الآن ذاته العمل في جريدة "النظام". وفي الجريدتين برز مفكراً وصاحب رأي جريء وصاحب مدرسة في الاشتراكية.



أنطون مارون

من القادة البارزين الذين أسسوا الحزب الشيوعي المصري العام 1923. كان محامياً معروفاً في الإسكندرية، ومدافعاً جريئاً وحازماً عن حقوق العمال. ولد في زحلة البقاعية بلبنان، حيث درس ثم انتقل إلى بيروت لدراسة المحاماة. هاجر إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر وأقام في الإسكندرية. كانت الاشتراكية قضيته. هجر المحاماة لينتقل الى النضال السياسي، متفرغاً للدفاع عن حقوق الإنسان أمام السلطة والمجتمع. وكانت حقوق العمال شغله الشاغل فأسس أول اتحاد نقابات العمال المصريين العام 1921 مع حسني العرابي الذي صار أمينه العام. وكان يحرض العمال على المطالبة بحقوقهم فقام عمال الكهرباء والغاز في الإسكندرية بتنظيم حركة احتجاج في مطلع العام 1923، بلغت ذروتها حين ألقى حسني العرابي خطاباً ثورياً أسفر في اليوم التالي عن بدء إضراب تحوّل إلى صدام مع رجال الشرطة واعتقال بعض العمال. فدعا اتحاد نقابات العمال إلى تظاهرة استنكار ألقت خلالها الشرطة القبض على حسني العرابي وأنطون مارون واثنين من العمال هما أمين يحي وحسن حسني. ومثل كل من مارون والعرابي أمام المحكمة بتهمة التحريض على تنظيم التظاهرة ثم أفرج عنهما لتنفيس الاحتقان.

وما لبث ان اتسعت التحركات العمالية لتشمل مصانع وشركات أخرى منها شركة الغزل. وفي مطلع العام 1924 تشكلت أول حكومة وطنية برئاسة سعد زغلول، فحلّ اتحاد النقابات واستبدل باتحاد آخر موالٍ للحكومة، كذلك حلّت الحزب الشيوعي واعتقلت قادته، ومن بينهم أنطون مارون. ومع ذلك امتدت الحركة الى مختلف المدن المصرية. وكان مارون في السجن مع رفاقه من قياديي العمال ومن المعتقلين السياسيين يلقون معاملة سيئة، فأعلن إضراباً عن الطعام واصله حتى وفاته يوم الأول من آب من العام 1925، وكانت وفاته على هذا النحو شهادة له بأنه كان اشتراكياً حتى الموت.






فؤاد الشمالي


أحد المشاركين في تأسيس الحزب الاشتراكي المصري مع سلامة موسى وآخرين في العام 1921، وأحد المشاركين في الانشقاق عن الحزب والعمل لتأسيس الحزب الشيوعي المصري العام 1923. بدأ حياته قائداً نقابياً، وتحوّل تدريجاً قائداً شيوعياً، وأحد المؤسسين الأوائل للحزب الشيوعي اللبناني العام 1924. كان حاد الذكاء، عميق الايمان بالاشتراكية، وظل أميناً لمواقفه حتى بعد اتهامه بالخيانة وفصله من الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان أميناً عاماً له لحوالى عشرة أعوام.

ولد العام 1894 في بلدة «السهيلة»- كسروان بجبل لبنان. تلقى دروسه الإبتدائية في مدينة «بيسان» في فلسطين حيث كان والده يعمل مترجماً بشركة السكك الحديد. انتقلت العائلة بعد وفاة الوالد إلى القاهرة فتابع فؤاد دراسته في مدارسها. عمل وهو في السادسة عشرة. وانضم في الثانية والعشرين إلى الحركة النقابية. وعند نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ العمل بمعمل للسجائر في القاهرة، ثم انتقل إلى الإسكندرية ليعمل في معمل للسجائر ويحكي في كتابه «نقابات لعمال» الظلم والمعاناة اللذين عاشهما كعامل.

كانت الإسكندرية حافلة بالإضرابات العمالية، وكان لعمال التبغ دور مركزي فيها. كان الشمالي من الحركة العمالية بالمرحلة التي أعقبت ثورة سعد زغلول. وكان عضواً قيادياً في الإتحاد المصري للعمال ومركزه القاهرة. لم يكتف الشمالي بنشاطه في الحركة العمالية وتأسيس نقاباتها واتحاداتها، بل شارك مع رفيقيه رفيق جبور وأنطون مارون وعدد من الوجوه الإشتراكية في مصر بينهم سلامة موسى ومحمد عبدالله عنان وحسني العرابي، في تأسيس «الحزب الإشتراكي المصري» العام 1921، ثم خرج مع مجموعة من رفاقه اللبنانيين والمصريين من الحزب الاشتراكي وأسسوا الحزب الشيوعي المصري العام 1923. عندما عاد الشمالي الى لبنان بعدما طردته السلطات المصرية العام 1924 انخرط بالحركة العمالية، وكان عاملاً في أحد معامل التبغ في بكفيا الجبلية. ساهم بتأسيس نقابة عمال الدخان مع عدد من رفاقه، كفريد طعمه وبطرس حشيمة. كان الشمالي تكوّن في مصر كقائد شيوعي وهمه الأول نقل تجربته من مصر إلى لبنان حيث شروط النجاح متوافرة أكثر من مصر. التقى، وهو يغادر الباخرة التي أقلته من الإسكندرية إلى مرفأ بيروت، مع المثقف الإشتراكي يوسف ابراهيم يزبك الذي كان موظفاً في المرفأ. اتفقا على الاجتماع مع عدد من العمال في منزل جد يزبك لوالدته عبدالله الشدياق في الحدث بالضاحية الشرقية للعاصمة بيروت، ليؤسسوا معاً نواة الحزب الشيوعي اللبناني، في العام 1924.

إلا أن الحزب الحقيقي الذي اشتغل الشمالي مع يوسف ابراهيم يزبك وآخرين على تأسيسه هو «حزب الشعب» العام 1925. ومن إنجازاته الاحتفال الذي دعا إليه الحزب إحياء لعيد العمال في أول أيار بسينما كريستال ببيروت.

لم يعش «حزب الشعب» كحزب إشتراكي، فالأممية الشيوعية فرضت كشرط من شروط انضمام الأحزاب العمالية إلى صفوفها بأن تحمل اسم الحزب الشيوعي، فجرى تغيير الاسم. ومن مواقفه إعلانه الصريح دعم الثورة السورية التي انطلقت العام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش. بادرت سلطات الانتداب الفرنسية إلى اعتقال الشمالي وعضو قيادة الحزب آرتين مادايان، ونفتهما الى جزيرة «أرواد» وحكمت عليهما بالاعدام مع آخرين من قادة الثورة السورية من دون أن يجري تنفيذ الحكم. وظل الشمالي ومادايان في المنفى حتى 1927، عادا بعدها إلى البلاد بعد عفو من سلطات الانتداب وبعدما توقفت الثورة. وفي 1928 ذهب الشمالي إلى موسكو لحضور المؤتمر السادس للكومنترن بعدما حوّل حزب الشعب الى الحزب الشيوعي تنفيذاً لقرار الأممية الشيوعية.

وظل الشمالي على رأس الحزب حتى مطلع الثلاثينات وواجهته مشاكل وصلت حد تخوينه وطرده من الحزب بصفته عميلاً للمخابرات من دون تبريرات مقنعة، بسبب بعض مواقفه التي لم ترضِ السوفيات. لم يتخل الشمالي عن مواقفه ومبادئه، وظل يدافع عن الاشتراكية. غادر الحياة في 1939 فقيراً معدماً ترافقه تهمة الخيانة حتى بعد وفاته، إلى أن تمكنت القيادة الجديدة للحزب الشيوعي اللبناني من جيل الشباب من إعادة الاعتبار له في المؤتمر الثاني للحزب الذي عقد في 1968. وكان لي، من موقعي في قيادة الحزب، شرف الاسهام في إعادة الاعتبار إلى هذا القائد الشيوعي التاريخي.


MISS 3