عيسى مخلوف

هذا العالم الذي يُشعل النار في نفسه!

9 أيلول 2023

02 : 01

لوحة للفنان الإنكليزي فرانسيس بيكون

مع فصل الصيف الجاري، صيف 2023، «بدأ الانهيار المناخي» الذي حذّر منه العلماء منذ عقود من الزمن. الأشهر الثلاثة الأخيرة التي مرّت، قد تكون الأكثر سخونة في تاريخ البشرية، وبالتحديد منذ قرابة 120 ألف سنة، كما صرّحت مؤخّراً سامانتا بورجيس، نائبة مدير خدمة كوبرنيكوس لتغيُّر المناخ. اضطرابات الحياة الطبيعيّة وانعكاساتها بدأت تتكشّف في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية من خلال الجفاف والفيضانات والحرائق، بصورة غير مسبوقة، مع ما سيترتّب على ذلك من خسائر في الأرواح والاقتصادات والبيئة، ومن مجاعات وأعاصير، فضلاً عن ظواهر مقلقة كظاهرة النينيو الناتجة عن الاحتباس الحراري ودفء المياه السطحية للبحار والمحيطات.

سيؤثّر ارتفاع درجة الحرارة أيضاً على التنوّع البيولوجي مع ضُمور العناصر الغذائية في المحيطات وتراجُع نسبة الأوكسجين، ممّا يهدّد بقاء الحيوانات والنباتات، ويلوّح بـِ»الانهيار المحتمل للدورات الإنجابية في أعماق الماء». ومع ذوبان الجليد القطبي وانعكاسه على المحيطات، ستجتاح المياه مناطق ساحليّة، منها، في فرنسا وحدها الآن، أكثر من 116 مدينة ومنطقة ستقترب منها مياه البحار بصورة تدريجيّة في السنوات المقبلة، ومن تلك المناطق، البروتان والنورماندي.

ما العمل حيال هذا الواقع الذي يشبه أفلام الخيال العلمي لكنّه لا يمتّ بصِلة إلى الخيال، بل بات حقيقة جليّة وملموسة؟ هل هناك بوادر مشروع سياسي إنساني يلوح في الأفق؟ هل ثمة إمكانية للخروج من هذه الدوّامة من دون تضامن على مستوى عالمي، وتغيير أنماط العيش السائدة، والتنبّه إلى أنّ الحياة على الأرض لا يمكن اختزالها في الاقتصاد وفي تسليع كلّ شيء؟ أخيراً، هل العالم المحكوم بهذا الشكل، على المستويين السياسي والاقتصادي، سيلتفت إلى مواجهة التحدّيات والحدّ من الخطر الذي يَعني الكوكب بأكمله، لا دولة بعينها فحسب؟ أم أنّ الأسبقيّة هي للمصالح الخاصّة لهذه الدولة أو تلك، وإذكاء نار الحروب بدلاً من تفاديها؟ ورأينا كيف ازداد، مع بداية الحرب في أوكرانيا، السباق المحموم نحو التسلّح ومضاعفة ميزانيات الدفاع. على سبيل المثال، تخطّط فرنسا لموازنة عسكرية جديدة بقيمة 413 مليار دولار للفترة 2024-2030، أي زهاء 68 مليار يورو سنوياً.

من جانب آخر، أدّى تحالف التكنولوجيا والاقتصاد إلى تغيير العلاقة ليس فقط بالطبيعة والبيئة والمناخ، بل أيضاً بالعلم والثّقافة. فالدورة الاقتصاديّة الآن، التي لا تعنيها قيمة أخرى غير المردوديّة المادية وإن على حساب الأرض وسكّانها، تلقي بظلالها على التّربية والتّعليم، ومن خلالهما على التوجّهات الجديدة التي تعمل على تهميش الجماليّات والمعارف الإنسانية. إنّها المرّة الأولى الّتي يجتاح فيها المال، بهذه الطريقة الحاسمة، كلّ شيء، ويُحكم قبضته على كلّ شيء، ويُخضع كلّ شيء لشروطه ومعاييره.

لقد تأكّد أنّ آلهة السياسة والاقتصاد، في عالمنا اليوم، أكثر قدرة على «تسيير» العالم من آلهة الأوليمب، الآلهة اليونانيّة القديمة. كيف لا وفي استطاعتها خلخلة النظام الطبيعي والبيئي الذي قام عليه هذا الكوكب المسكين. آلهة السياسة والاقتصاد تريد المزيد من الحليب لكنها تقتل البقرة. المزيد من الثمار، وتقطع الأشجار. المزيد من الصحة والرخاء، وتُمعن في تلويث الهواء والماء!

تُرى، مَن سيعمل على معالجة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والذين يستولون على الأرض يتقاذفونها ككرة بين أقدامهم؟ هذا هو الجبروت المعروفة مآلاته سلفاً! الذين يحكمون العالم يحكمونه بالطريقة نفسها التي سادت طويلاً، وصولاً إلى يومنا هذا، وهي طريقة بدائيّة لم تعد تتلاءم مع التحدّيات الجديدة التي تهدّد الأرض ومن عليها. لكنّ هؤلاء لا يشغلهم المصير الواحد للبشريّة جمعاء بقدر ما تشغلهم السلطة الأحاديّة واستمرار الحروب. وهم يتقاتلون الآن في سفينة بدأت تترنّح وتُشارف على الغرق.

نحن نعيش، في الوقت الراهن، على مفترق طُرُق، فإمّا أن نتصالح مع أنفسنا ومع الطبيعة والبيئة حولنا، أو نفعل العكس وتكون النتائج معروفة مسبقاً، ويتحقّق عندئذ ما استشرفه نيتشه في القرن التاسع عشر: «ذات مرّة، وفي زاوية قصيّة من الكون الشاسع المُوزَّع على أنظمة شمسيّة متلألئة، كان ثمّة كوكب عاشت عليه حيواناتٌ ذكيّة تمكّنت من ابتكار المعرفة. كانت تلك اللحظة مصدرَ فخر وغطرسة، وكانت أكثر اللحظات زَيفاً وكذباً في «التّاريخ الكونيّ» كلّه. لكنها لحظة واحدة فحسب. فبعد أن تنفّست الطّبيعة قليلاً، بردَ الكوكب وتَجَمَّد، وكان على الحيوانات الذّكيّة أن تموت».


MISS 3