*تحصيل ضرائب إصلاحية والبدء بمعالجة الهدر والفساد والحدّ من الإقتصاد غير الرسمي
*على الحكومة الحدّ من حاجتها للعملات الأجنبية حتى لا تنافس القطاع الخاص في عملية الطلب
*تعاون السياستَين المالية والنقدية للحدّ من ضخ الليرة اللبنانية في الأسواق ولجم إرتفاع التضخّم
وافق مجلس الوزراء على اعتماد منصة تداول جديدة لصرف العملات ستطلق قريباً بالتعاون مع «بلومبيرغ» التي توفّر للبنان نظاماً تقنياً معتمداً عالمياً تمرّ عبره وتسجّل عليه تداولات العرض والطلب، فيتحدّد السعر لحظوياً. وسألت «نداء الوطن» النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان الدكتور سليم شاهين، الذي كان أول من أفصح عن نية البنك المركزي التخلّي عن المنصة القديمة التي أسّسها وقادها الحاكم السابق رياض سلامة، عن أهمية الانتقال الى منصة بلومبيرغ؟
أهمية المنصة الجديدة
فقال شاهين: «إن اعتماد منصة تسعير شفّافة هو خطوة أساسية لإعادة الثقة بالعملة الوطنية، ويتبع هذا الخيار القرار الأهمّ، ألا وهو توحيد وتحرير سعر الصرف للحدّ من الضغط على احتياطيات المصرف المركزي من ناحية، وتأمين الأسس لتوازن اقتصادي ومالي من ناحية أخرى». وعليه، وفقاً للنائب الثالث، «فإن اعتماد منصة بلومبيرغ كغيرها من المنصات العالمية، يؤمّن الشفافية المطلوبة ويقود الى تحديد سعر الصرف ضمن معادلة واضحة مبنيّة على عملية العرض والطلب، اللذين يعكسان صحّة الاقتصاد، علماً أن العوامل النفسية والمضاربات التي تنتج عن المناكفات السياسية تؤثر سلباً في ثبات سعر الصرف».
العوامل المؤثرة
وأضاف: «إذا اعتبرنا أن اعتماد منصة إلكترونية عالمية (بلومبيرغ) هو أمر تقني بحت لتداول الليرة على الدولار مثل كل الدول الأخرى والذي سيأتي بالتوافق مع تنظيم مهنة «صانع السوق» أو الـ Market Maker، فإن التحدّي الأهمّ هو تأمين العوامل الاقتصادية التي تسمح بتأمين ثبات سعر الصرف لأقصى درجة ممكنة».
أما عن العوامل الاقتصادية التي قد تؤثر في سعر الصرف، فأكّد شاهين «أنه وبعيداً عن الاستقرار السياسي الذي يخرج عن سيطرتنا، فإن ثبات سعر الصرف ينتج أولاً من توازن ميزان المدفوعات في الاقتصادين الرسمي وغير الرسمي، ما يسمح للمصرف المركزي بحماية احتياطياته بالعملات الأجنبية والتوظيفات الإلزامية واستخدامها لتأمين الاستقرار المصرفي ضمن سياسات نقدية وتسليفية علمية وعملية، تساهم في إعادة تكوين ما تبقّى من أموال المودعين، وخدمة الاقتصاد المنتج في الوقت نفسه».
الكرة في ملعب وزارة المالية
ومن ناحية أخرى، أوضح «أن ثبات سعر الصرف يتطلّب من الحكومة وضع موازنة متوازنة تسمح لها بجباية إيرادات ضرائبية وغير ضرائبية عادلة تحدّ من التأثير في القدرة الشرائية ومدخول الطبقتين الفقيرة والوسطى اللّتين تعانيين من وقع الأزمة الاقتصادية وتدهور سعر الصرف. وعليه، تترتّب على الحكومة معالجة الهدر والفساد والحدّ من الاقتصاد غير الرسمي قبل زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة. كما على الحكومة العمل على تحصيل ضرائب ورسوم إصلاحية بدءاً بالاستفادة من أصول الدولة ومرافئها البحرية والجوية والبرية، وفرض الضرائب على الكسّارات والمقالع وغيرها من الرسوم الجديدة التي لا تؤذي الاقتصاد الرسمي ولا تصيب محدودي الدخل. ويتوجّب على الحكومة أن تستخدم إيراداتها ضمن سياسات إنفاق حمائية، إنمائية، واستثمارية تساعدها على تحسين أدائها وخدماتها الاجتماعية من الماء والدواء والكهرباء، والتربية والتعليم وحفظ الأمن، والمرافئ الأساسية للمواطنين».
الحدّ من الحاجة إلى الدولار
والأهمّ، برأي الدكتور سليم شاهين، «أن تحدّ الحكومة من حاجاتها للعملات الأجنبية حتى لا تنافس القطاع الخاص في عملية الطلب في سوق القطع، خصوصاً في هذه المرحلة الانتقالية التي، وعلى الرغم من تواصل حركة تصدير الخدمات، لا يزال يعتمد الاقتصاد اللبناني على الاستيراد ويتأخر في تطوير الإنتاج المحلي البديل. فبغياب الإصلاحات الجذرية في السياسات الحكومية، وفي ظلّ رفض مصرف لبنان تمويل العجز، وغياب مصادر التمويل التقليدية من الأسواق المالية، سينتج تمويل عجز الموازنة من زيادة عبء الضرائب على من يدفعها أصلاً».
السياستان المالية والنقدية
وعن التفريق بين السياسة المالية والسياسة النقدية وأهمية التواصل بين الحكومة والمصرف المركزي، يشرح شاهين «أن السياسة المالية تعكس منظور الحكومة الاقتصادي وتأثيراته في الخطط التي توضع لتحصيل الواردات وكيفية استخدامها لتأمين الخدمات والاستثمارات الحكومية. أما السياسة النقدية، فهي تتأثر بسياسات الحكومة المالية، وتُعنى بالحفاظ على سلامة النقد ضمن مبادئ الاستقلالية. ومن هنا تأتي أهمية التعاون بين السياسة المالية والسياسة النقدية للحدّ من ضخّ الليرة اللبنانية في الأسواق ووضعها ضمن منهج واضح يسمح للمودع باستعادة أمواله تدريجياً بالليرة اللبنانية والعملات الأجنبية من دون تضخّم مفرط، لا سيطرة عليه، للكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، ما قد يزيد من نسبة التضخّم، ويضعف الليرة، ويؤثر سلباً في القدرة الشرائية».
وختم قائلاً «علماً أن لبنان، قد عاش مرحلة طويلة من عدم الاستقرار السياسي، فإن توحيد سعر الصرف وتحريره سيسمح للحكومة ومصرف لبنان باستعادة إمكانية استخدام السياسات المالية والنقدية التقليدية، التي، وإن ستكون مكلفة على المدى القصير، ستساهم في لجم المضاربات وإعادة الثقة بالسياسات المالية والنقدية المتّبعة».
ماذا يمكن الإستنتاج؟
ممّا ينضح من أجوبة النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان، إن بين الأهداف توحيد أسعار الصرف. وهنا تطرح قضية شائكة يرفض مصرف لبنان الدخول فيها حالياً، وهي سعر صرف الدولار الرسمي الذي كان 1500 ليرة ورفعه رياض سلامة الى 15 ألف ليرة. وعلى أساسه اليوم تبنى ميزانيات المصارف (الزومبي والمفلسة)، كما أن الـ15 ألف ليرة هو سعر سحب ما اصطلح على تسميته «الدولارات القديمة» وفقاً للتعميم 151. فالمودعون يفتشون بإلحاح عن سعر عادل لسحب ودائعهم، بيد أن ذلك رهن جملة مشاريع قوانين عالقة في مجلس النواب أبرزها مشروع قانون إعادة التوازن للنظام المالي (بعبارات أخرى: كيفية توزيع الخسائر وردّ الودائع). كما أن ميزانيات المصارف الرابحة حالياً (!!) تحتسب على سعر 15 ألف ليرة، وهي بانتظار إقرار مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف لمعرفة المطلوب منها في سياق ورشة (يتواطأ فيها نواب مع بنوك) لقيام نظام مصرفي جديد في لبنان (من دون محاسبة حقيقية!)، وماذا سيتحمّل هذا النظام من ودائع عليه ردّها لأصحابها. إذاً، فإن هدف توحيد أسعار الصرف الذي يتحدث عنه مصرف لبنان سيبقى بلا معنى حقيقي قبل الحلّ النهائي لأزمة الخسائر والودائع... وعلينا الانتظار طويلاً بوجود منظومة الفساد نفسها.
وعد الشفافية
على صعيد وعد الشفافية، فإن من سيأتي الى منصة بلومبيرغ للتداول عليه الإفصاح عن مصدر أمواله التي يطلب صرفها، ومن يطلب عليه تبرير الغرض من طلبه، وستسجّل على المنصة كل المعلومات المطلوبة للشفافية العتيدة. وهنا لا عجب إذا أكدنا أنّ كثيراً من المتداولين يستمتعون اليوم (بمافيوية واضحة) في السوق الموازية غير الشفافة، طالما نعيش في «اقتصاد الكاش» السامح بالتهرّب من الضرائب ويتخلّله تبييض أموال وتمويل إرهاب أيضاً. فكيف يمكن الحؤول دون استمرار هذا الواقع الشاذ الذي بات يهدّد سمعة البلاد (دولة مارقة؟) وسيؤدي استفحاله الى تصنيف لبنان في المنطقة الرمادية وربما السوداء من مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)؟ الجواب برسم مصرف لبنان ووزارة المالية والسلطات الأخرى المعنية بالرقابة المالية والمصرفية... ولا أمل يرجى كثيراً.
وعلى سيرة الشفافية، لا يمكن الاكتفاء بالقول إن «منصة رياض وشلته» كانت غير شفافة وغضّ النظر عن تقرير البنك الدولي الذي فضح التربّح الملياري من تلك المنصة، فعلى وسيم منصوري ونوّاب الحاكم فتح تدقيق جنائي في تلك المنصة الفضيحة لاسترداد كل الأرباح غير الشرعية التي حصل عليها البعض الجشع لا سيّما المصرفيين منهم وكبار المتموّلين المضاربين برعاية أصحاب النفوذ لا سيما السياسيين الفاسدين منهم.
السوق الموازية باقية
وكما أسلفنا القول، فإن السوق الموازية ستبقى قائمة، وهي التي ستحدّد السعر النهائي لأنها ستبقى تستقطب القسم الأكبر من التداولات في المرحلة الأولى. وبالتالي فإن سعر منصة بلومبيرغ سيلحق السوق الموازية كما كان يحصل مع «منصة رياض وشلته»، مع فارق أن المضاربين السابقين أصبحوا مكشوفين أمام سلطات أمنية وقضائية تحاول مساعدة وسيم منصوري حالياً كي لا يفاجأ بتقلّبات كبيرة محرجة له وفريقه السياسي أو الطائفي. بيد أنّ مسألة الطلب الشامل تتجاوز المضاربين لتفرض نفسها أحياناً بلا عرض متكافئ طالما لبنان يستورد أضعاف ما يصدّر. أما الرهان على التحويلات من الخارج وإنفاق السيّاح والمغتربين فمحكوم بالعوامل الموسمية، ما يعرّض سوق القطع لهبّة سخنة تليها هبّة باردة تلفحان وجه سعر الصرف بسهولة. كما تتعيّن الإشارة الى أن عدم إقرار قانون للـ»كابيتال كونترول» سيبقى يؤثر سلباً، والأثر السلبي الأكبر هو الإمعان في قبول سردية أنه لا يمكن للبنان الحدّ من الاستيراد كي لا نمسّ بنمط عيش اللبنانيين، من دون تحديد اللبنانيين المقصودين بهذا النمط الاستهلاكي «التفشخري» المفرط الذي يستخدم الدولارات لعيشه الهانئ وكما يشاء... ولا عزاء للفقراء والمرضى غير القادرين على شراء دواء يؤجّل حتفهم قليلاً.
شروط طويلة عريضة
لنجاح منصة بلومبيرغ شروط طويلة عريضة. أبرزها كيفية إقناع وزير الثنائي يوسف خليل أنه لم يعد مطلقاً القبول بموازنة عاجزة. فهذا الوزير يعيش في كوكب آخر، ويجب كفّ يده فوراً عن إعداد الميزانيات وكفّ يد من يتلاعب به أيضاً ويتدخل في «المالية» غير مقتنع أنه خرج منها قبل سنوات.
الى ذلك لا ننسى أن منصة بلومبيرغ من دون تطبيق كامل الاتفاق مع صندوق النقد لا معنى لها على الإطلاق... وهذا نقاش آخر يستحقّ التوسّع فيه في مقام خاص به، ومفاده أن أي وعود إصلاحية من خارج الصندوق هي عرقوبية احتيالية كاذبة حتماً، ولا تفيد إلّا زعماء الفساد من مختلف القوى السياسية والطائفية.