بول هوكينوس

سوروس بدأ ينسحب من أوروبا

11 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جورج سوروس مع ابنه ألكسندر

اضطربت جماعات المجتمع المدني في القارة الأوروبية بعدما أعلنت «مؤسسة المجتمع المنفتح» (شبكة عالمية لتقديم الهبات من تمويل الملياردير وفاعل الخير جورج سوروس) عن تقليص حجم التمويل المخصص لأوروبا. تصل قيمة هذه المنظمة الخيرية إلى 25 مليار دولار، وقد سلّمها المموّل الكبير البالغ من العمر 93 عاماً إلى ابنه ألكسندر سوروس هذه السنة، ومن المتوقع أن تتخلى عن عدد كبير من البرامج الأوروبية القديمة ونشاطات تقديم الهبات كجزءٍ من حملة إصلاح مكثفة تخوضها المنظمة.

في رسالة داخلية بتاريخ 31 آب، شرح سوروس الإبن أن هذه الخطوة لا تعني انسحاب «مؤسسة المجتمع المنفتح» من أوروبا، فقال: «وفق نموذج العمل الجديد في المؤسسة، سنصبح أكثر قدرة على تمكين قطاع المجتمع المدني المتين من إحراز التقدم في عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي، تزامناً مع تحرير الموارد وفِرَق العمل استباقاً لأي تهديدات ناشئة من الحكام المستبدين في المنطقة وجميع أنحاء العالم».

تشير هذه التعديلات حتماً إلى وجهة جديدة قد تُخفّض عدد الموظفين في «مؤسسة المجتمع المنفتح» من 1650 منذ سنة إلى أقل من نصف هذا العدد. لم يتّضح بعد إلى أي حد ستتأثر المبالغ المخصصة لأوروبا سنوياً (مجموعها 209 ملايين دولار، أي حوالى 14% من الميزانية الإجمالية التي تصل إلى 1.5 مليار دولار)، لكن ستحافظ «مؤسسة المجتمع المنفتح» على حضورها في أوروبا وأوكرانيا والبلقان. تسعى المؤسسة في الوقت الراهن إلى إعادة توجيه عملياتها نحو الجنوب العالمي. تحمل هذه التعديلات بصمة ألكسندر سوروس ومنظمة خيرية خاصة بذلت قصارى جهدها لنشر الديمقراطية في أوروبا لكنها لم تنجح في جميع الحالات.

ربما تفاجأت المنظمات الأوروبية غير الربحية بخطوة «مؤسسة المجتمع المنفتح»، لكنّ هذا الانسحاب بدا متوقعاً منذ فترة. على عكس دور المنظمة في إسقاط الشيوعية ودعم الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الوسطى والشرقية، يبقى سجلها فاشلاً في اختراق الحكومات الاستبدادية كتلك السائدة اليوم في روسيا، والمجر، وبولندا. رغم إصرار جورج سوروس على إنكار ما حصل، كان تغاضي «مؤسسة المجتمع المنفتح» عن المقاربة الاقتصادية الغربية الخاصة بأوروبا الوسطى والشرقية بعد الحقبة الشيوعية، خلال التسعينات (لا سيما الليبرالية الجديدة القائمة على السوق الحر باعتبارها جزءاً من الديمقراطية الليبرالية)، يتماشى مع خطط زعماء شعبويين قوميين مثل رئيس المجر فيكتور أوربان الذي وجّه الحشود المستاءة ضد الليبرالية التي يجسّدها سوروس ومؤسسته. تستحق «مؤسسة المجتمع المنفتح» الإشادة لأنها تعلّمت على ما يبدو هذا الدرس الصعب، وهي تأمل في أن تُحقق صيغة جديدة محورها العدالة الاجتماعية النتائج المنشودة في الجنوب العالمي، على عكس ما تفعله الجمعيات الخيرية الخاصة التي تحكمها نزوات أفراد العائلة.

منذ الثمانينات، حين بدأ مدير صندوق التحوط جورج سوروس بتمويل الطبقات الشعبية والجماعات المعارِضة في أوروبا الوسطى والشرقية خلال عصر الشيوعية، شاركت «مؤسسة المجتمع المنفتح» في نشر الديمقراطية في المنطقة وشكّلت حبل نجاة لمجموعة من المنظمات غير الربحية الداعمة للديمقراطية. كانت هذه الفئة من جماعات المجتمع المدني في طليعة الثورات الديمقراطية بين العامين 1989 و1991، فحصد سوروس بعض الإشادة على إسقاط الشيوعية بالطرق السلمية. على مر حقبة التسعينات وما بعدها، توسعت نشاطاته الخيرية وحوّل تركيزه من تغيير الأنظمة إلى تسهيل نشر الديمقراطية في أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث دعمت أمواله الحملات الانتخابية الخاصة بالحزب الديمقراطي وبرامج معالجة المدمنين على المخدرات.

تأتي خطة الانسحاب التدريجي من أوروبا لتتابع عملية بدأت في منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حين استنتجت «مؤسسة المجتمع المنفتح» أن الاتحاد الأوروبي، الذي يملك أموالاً تفوق أموال المؤسسة بأشواط، سيستولي على أكبر عدد من أعضائها الجدد. كان لافتاً أن تبدأ المؤسسة بالتراجع تزامناً مع وصول عدد متلاحق من الشعبويين القوميين إلى السلطة في أوروبا الوسطى والشرقية، بما يتعارض مع أجندة سوروس الليبرالية والعلمانية والبراغماتية. نتيجةً لذلك، خفّضت «مؤسسة المجتمع المنفتح» تمويلها للمنظمات غير الربحية في المجر في العام 2010 (سوروس مغترب مجري غادر البلد بعد الحرب العالمية الثانية). إنها السنة التي وصل فيها أوربان إلى السلطة للمرة الثانية. وفي العام 2005، فاز «حزب العدالة والقانون» المحافِظ والمتطرف في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في بولندا. في جميع أنحاء أوروبا الوسطى والشرقية، وجدت الأحزاب الليبرالية نفسها في موقف دفاعي، وقرر جزء كبير منها الانسحاب من البرلمانات بالكامل. وفي خطوة جاحدة أخيرة، طاردت حكومة أوربان، في العام 2018، جامعة أوروبا الوسطى التي يموّلها سوروس وتُعتبر منارة للتفكير الليبرالي، من بودابست إلى فيينا).

بعد مرور بضع سنوات، علّق سوروس شخصياً على ردود الأفعال القوية التي انتشر صداها في أنحاء أوروبا وأماكن أخرى، فصرّح للإذاعة الوطنية العامة في العام 2019: «حين بدأتُ أشارك في الأعمال الخيرية السياسية منذ أربعين سنة تقريباً، كانت فكرة المجتمع المنفتح تشهد رواجاً متزايداً، فبدأت المجتمعات المنغلقة تنفتح على العالم حينها. اليوم، تتخذ المجتمعات المنفتحة موقفاً دفاعياً وتشهد الأنظمة الدكتاتورية توسعاً متزايداً... يجب أن أعترف بأن الوضع انقلب ضدي».

أدى تلاشي الديمقراطية في البلدان التي استهدفتها أموال «مؤسسة المجتمع المنفتح» طوال سنوات، أو حتى تشوّهها في بعض الحالات المتطرفة، إلى تشكيك البعض بطبيعة حملة نشر الديمقراطية الغربية. تعليقاً على الموضوع، تقول ميري كالدور، أستاذة فخرية في الحوكمة العالمية في كلية لندن للاقتصاد: «كان أكبر خطأ يتعلق بالاستخفاف بالليبرالية الجديدة. لم يحصل أي نقاش عن هذه المسألة».

ينكر سوروس هذه المعلومة، لكن لطالما كانت «مؤسسة المجتمع المنفتح» تدعم الحكومات الغربية والمؤسسات المالية التي أطلقت عملية انتقالية نحو شكلٍ من الرأسمالية القائمة على السوق الحر، علماً أن هذه النسخة بدت الأكثر نقاءً حتى عند مقارنتها بالديمقراطيات الاجتماعية الراسخة في أوروبا الغربية. كانت مقاربة عدم التدخل كفيلة بإغراق الاقتصادات غير الجاهزة والمجتمعات المترقّبة في أوروبا الوسطى والشرقية في حالة من الفوضى: أفلست الصناعات المملوكة للدولة وبيعت مقابل أسعار ضئيلة، وبلغت البطالة مستويات قياسية، واستفحل الفساد في كل مكان، وتفككت المجتمعات. شكّلت مشاعر الخوف والغضب في المرحلة اللاحقة أرضاً خصبة للشعبوية القومية، كما ذكر جون فيفر في كتابه Aftershock: A Journey Into Eastern Europe’s Broken Dreams (ما بعد الصدمة: رحلة إلى أحلام أوروبا الشرقية المكسورة). يعترف نائب رئيس «مؤسسة المجتمع المنفتح»، ليونارد بيرناردو، بأن ما حصل ينمّ عن «فشل غربي ذريع» في فهم حقوق الإنسان، لا على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي، بل باعتبارها هياكل سياسية ومدنية.

نظراً إلى موافقة «مؤسسة المجتمع المنفتح» الضمنية على «علاج الصدمة»، كان متوقعاً أن يوجّه الشعبيون، وعلى رأسهم أوربان في المجر، أصابع الاتهام إلى سوروس ومؤسسته باعتبارهما مسؤولين عن ما اعتبروه سياسات اقتصادية وحشية ونخبوية ومصممة في الخارج. كذلك، استغل حزب «فيدس» بقيادة أوربان وأعوانه هوية سوروس اليهودية لإطلاق أحكام معادية للسامية. بغض النظر عن صحة ما حصل، تشوهت سمعة المستفيدين من الهبات في أوروبا الوسطى والشرقية عند ارتباط أسمائهم بمؤسسة المجتمع المنفتح لدرجة أن يفضّل الكثيرون تقليص دور المؤسسة والاتكال على وسائل تمويل غير مباشرة أخرى.

منذ بدء هذه الفورة الشعبوية، أثبتت «مؤسسة المجتمع المنفتح» عجزها عن اختراق الحكومات الاستبدادية المُنتخَبة ديمقراطياً مثلما فعلت مع الشيوعية السوفياتية. في السنة الماضية، حصد حزب «فيدس» أغلبية ساحقة أخرى في البرلمان المجري بسهولة، وقد حقق هذه النتيجة للمرة الثالثة على التوالي. في الوقت نفسه، حقق «حزب القانون والعدالة» في بولندا القدر نفسه من النجاح تقريباً. أما روسيا في عهد فلاديمير بوتين، فهي لا تزال محصّنة حتى الآن في وجه الأساليب التي تستعملها «مؤسسة المجتمع المنفتح» على الأقل.

يعني ذلك أن «مؤسسة المجتمع المنفتح» قررت الاستسلام جزئياً. إذا كانت استراتيجياتها السخية والمتجددة تعجز عن تجاوز سطوة الشعبويين المستبدين، قد تتمكن من بذل جهود مضاعفة لتطوير البلدان. هي تقبّلت حتماً الدروس المريرة التي استخلصتها من أوروبا الوسطى والشرقية. تبقى العدالة الاجتماعية في صلب برامج «مؤسسة المجتمع المنفتح» في أفريقيا، وآسيا، وأميركا الجنوبية. تذكر استراتيجية المؤسسة الجديدة «أفريقيا واحدة»: «نحن نعتبر العنف رؤية تنموية مالية ونيوليبرالية غير منظّمة وخارجة عن السيطرة، وهي تُضعِف التركيز على راحة الشعوب والمجتمعات».

لكن يحمل وداع «مؤسسة المجتمع المنفتح» لأوروبا دلالات أخرى عن التحديات التي تواجهها هذه المنظمة. تُعتبر مؤسسة سوروس منظمة خيرية يديرها شخص واحد: جورج سابقاً وألكسندر راهناً. لطالما اشتكت جهات داخلية في المؤسسة من تحوّل أجندة المنظمة إلى خليط فوضوي من أحدث نزوات جورج وخيالاته. لكن هذه هي طبيعة المنظمات الخيرية، فهي تميل إلى المراوغة وتغيير وجهتها، أو التقدم ثم التراجع، أو الانعطاف بلمح البصر. حققت «مؤسسة المجتمع المنفتح» نجاحاً يفوق جميع المؤسسات الأخرى عبر تطبيق هذه المقاربة، وقد تقرر تكرار جزء من أساليبها في الجنوب العالمي أيضاً.