منى فياض

تجربة شيرين عبادي في ذكرى ثورة مهسا أميني

16 أيلول 2023

02 : 00

شيرين عبادي

تشير شيرين عبادي في كتابها «إيران تستيقظ»، الذي صدر في العام 2010، الى ان الحكومة الإيرانية اعترفت أخيراً في العام 2000، وللمرة الأولى في تاريخها، بأنها متواطئة جزئياً في مجموعة كبيرة من عمليات القتل المتعمد التي وقعت في أواخر التسعينات وقضت على حياة العشرات من المثقفين. قتل بعضهم خنقاً والبعض الآخر بينما كان يقضي بعض شؤونه، وآخرون قطعوا إرباً إرباً في بيوتهم. وقد سُمح حينها للجسم القضائي بالوصول الى الملفات الكاملة، فوجدوها اكواماً ترتفع الى ما فوق رؤوسهم، وعليهم قراءتها في وقت محدود.



كانت المقاطع المهمة من محاضر الاستجوابات مدفونة في صفحات من الحشو البيروقراطي. وبدت المادة كالحة مع وصف مفصّل لعمليات القتل الوحشية. وفي بعض المقاطع يقول فيها القاتل، فيما يبدو كأنه يتلذذ، انه صرخ «يا زهراء»، في تحية قاتمة الى ابنة النبي، مع كل طعنة يقوم بها.

في إحدى الصفحات وجدت محضر محادثة بين وزير في الحكومة وأحد عناصر فريق الموت، وجدت جملة ستلاحقها لسنوات عديدة، في مطلع الصفحة: «التالي الذي سيقتل هو شيرين عبادي».

فرمقت زميلة لها، وكان والداها أول من قتلا طعناً ثم قطعت جثتاهما بوحشية في بيتهما في طهران في وسط الليل. لم تخف عبادي ولم تغضب، فقط لم تصدق.



مهسا أميني




كتاب شيرين عبادي



عندما طلب القاتل المفترض الاذن لقتلهم، أخبره الوزير بأن ذلك لن يكون في شهر رمضان، لكنه برّر قتلهم بأنهم في جميع الأحوال لا يصومون وقد ابتعدوا عن الله.

لم يعرف التاريخ الإسلامي القتل أو الإعدام لعدم القيام بالفروض الإسلامية. كذلك لا يعدّ الحجاب من الفروض الخمسة الملزمة دينياً.

شيرين عبادي لم تضع غطاء الرأس لأن اسرتها لم تكن متمسكة بالتقليد. ولم تلاحظ كيف ان المساواة بين الجنسين غرست لديها في البيت. وهي تقر ان هذه التنشئة جنبتها قلة الثقة بالنفس والاتكالية التي لاحظتها عند نساء نشأن في بيوت أكثر التزاماً بالتقاليد.

تمتع العلاقات بين الجنسين تحت حكم الشاه بحرية معتدلة، حرية معتدلة.



امرأة غير محجّبة تتّجه والآلاف نحو مقبرة أميني في مسقط رأسها بمناسبة مرور 40 يوماً على وفاتها (أ ف ب)



قبل الثورة لم تمنح الشاه بوعي رصيداً لكونه يقود ايران الى حيث تمكنت من أن تصبح قاضية، تماماً كما سيحدث في أيام ثورة مقبلة حيث لم تتخيل ان يبشّر آية الله الخميني بإيران لا تتمكن فيها من أن تكون قاضية.

لم تقف عبادي في لحظة معينة لتميّز الخطوط العريضة للمشهد المتكون امامها. كانت الثورة تتطور تحت راية الإسلام.

وكان تدخل رجال الدين في السياسات الإيرانية في أواخر السبعينات من القرن العشرين، كما على امتداد الأجيال، ظاهرة تاريخية. وكان المجال العام طوال القرنين السابقين تقريباً متركزاً على المسجد والبازار. واعتادت آذان الايرانيين العاديين على سماع آية الله الخميني يمطر من منفاه الشاه بالذم والطعن.

ومن بين المجموعات المعارضة كان صوت رجال الدين هو الأقوى. وكان هؤلاء يمتلكون المراكز التي يستطيعون فيها رفع أصواتهم وتنظيم صفوفهم. ولم يبد أمراً خطيراً ان يتولى رجال الدين القيادة.

تحكي كيف شاركت بعد الثورة في محاولة طرد وزير العدل من زمن الشاه من مكتبه، وكان غائباً لكنهم وجدوا خلف مكتبه احد أقدم القضاة. نظر اليهم القاضي بدهشة، وتوقف عن التحديق عندما رأى عبادي. سألها حائراً متجهماً:» أنت! أنت من بين جميع الناس، لمَ انت هنا؟ ألا تعلمين أنك تدعمين أناساً ينتزعون منك وظيفتك إذا وصلوا الى السلطة؟». أجابت بجسارة والشعور بالصواب يبلغ الأعماق: «أفضل ان أكون إيرانية حرة على ان أكون محامية مستعبدة». ظنت أن الثورة ستحمل لها الحرية.

تضحك حالياً من شعور الفخر الذي غمرها حينها. وتستنتج انها شاركت بملء إرادتها وبحماسة بالقضاء على حريتها. دعمت ثورة طالب انتصارها بهزيمتها.

بعد أعوام كان القاضي يذكرها دائماً بهذه الملاحظة القدرية.

عندما ظهر الخميني في الأول من شباط من العام 1979 بحاجبيه الثقيلين ووجهه العابس من باب طائرة الخطوط الجوية الفرنسية، وهبط الامام ببطء الى مدرج مطار مهراباد، منهياً منفاه بعد ستة عشر يوماً من بداية منفى الشاه.



محتجون في نيويورك يطالبون الأمم المتحدة باتخاذ إجراءات ضد معاملة النساء في إيران عقب وفاة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق (أ ف ب)



سئل: كيف تشعر اليوم بعيد عودتك الى إيران؟ «ما من شعور لديّ»، أجاب من دون أي تعبير.

علقت صديقة: كيف يمكن لشخص ان يمضي 14 عاماً في المنفى ويعود في ظل هذه الظروف غير المعقولة ثم يقول: ما من شعور لديّ؟

لم يتكلم آية الله الخميني في ذلك اليوم عن الدولة الإسلامية.

كانت الدعوة الى وضع غطاء الرأس أول تحذير من أن الثورة هذه قد تأكل أخواتها، وهو الاسم الذي كانت النساء يطلقنه على بعضهن اثناء تحركاتهن للإطاحة بالشاه.

عندما توجهت مع زملائها لتهنئة بني صدر (شقيق الرئيس) بوظيفته في وزارة العدل أول ما قاله لها عندما شاهدها: «ألا تعتقدين انه انطلاقاً من الاحترام لقائدنا المحبوب الامام الخميني الذي انعم على إيران بعودته، من الأفضل ان تغطي شعرك؟». شعرت بقشعريرة. تكتب: «كنا في وزارة العدل بعد انتفاضة شعبية عظيمة استبدلت ملكية تعود الى العصور القديمة بجمهورية حديثة، وها هو المشرف الجديد يتحدث عن الشعر!!

قالت: «لم اضع غطاء الرأس في حياتي قط، وسيكون من النفاق ان أبدأ ذلك الآن». قال وكأنه حل ببساطة معضلتي: «اذن ضعيه عن إيمان». أجابت: «لا تكن فصيح اللسان. لا ينبغي إرغامي على ارتداء حجاب، واذا لم اكن مؤمنة به فلن ارتديه».

سأل وصوته بدأ يرتفع: «ألا ترين كيف يتطور الوضع؟».

لم أرد أن اسمع، او حتى أن أفكر في ماهية الواقع «الوضع» الذي يحضّر لنا. وبعد ذلك دفعت الى الاستقالة من منصبها كقاضية متميزة من أفضل القضاة.



*كتاب: شيرين عبادي والثورة الإيرانية

*ايران تستيقظ: شيرين عبادي، ترجمة حسام عيتاني، دار الساقي، بيروت، 2010



MISS 3