شربل داغر

قلقُ صاحبِ القنبلة النووية الأولى

18 أيلول 2023

02 : 04

إنتابتْني مشاعر متضاربة عند الخروج من صالة السينما، ومن عرض فيلم: «أوبنهايمر» للمخرج كريستوفر نولن: مشاعر دهشة أمام روعة الفيلم، ومشاعرُ قلقٍ ازاء ما افتتحتْه قصة الفيلم.

هي قصة العالِم الذي صنع أول قنبلة نووية، وأوقفتْ الحرب العالمية الثانية.

الأسئلة عديدة ومكلفة: أكان للعالِم أن يباشر، ان يمضي في صناعة القنبلة أم كان له أن يتوقف؟

قرارُ إلقاءٍ القنبلة من عدمه كان في عهدة الرئيس الأميركي ترومان: لماذا ألقاها، مع أن القوات النازية كانت قد اندحرت، والقوات المعادية المتبقية، أي اليابانية، كانت تترنح؟

لم يكن للعالِم أن يتوقف في ما شرع به، في ما اختبره، في ما جربه، في ما توصل إليه.

إذ إن شهوة الكشف عند عالم الفيزياء لا تختلف، على الأرجح، مع ما ينتاب المبدع في تطلعات المغامرة والكشف. بل أكثر من ذلك، إذ إن العالِم يتعلم من دروس العلماء، سابقيه، ويبني على توصلاتهم، ويتطلع إلى منافستهم، بل إلى تخطيهم. هذا ما يعرفه أوبنهايمر عن العلماء الألمان الذين تقدموه، بسنتين على الأقل، في بحوثهم النووية، من دون أن يبلغوا خاتمته الناجزة مع سقوط النازية. هذا ما يعرفه أوبنهايمر عن العلماء السوفيات، الذين كانوا يتسابقون معه في الوصول إلى تفجير الذرة.

لكن ما نجح فيه أوبنهايمر، كان يمكن أن يبقى في عهدة العلم وحده، في خبايا المعادلات الفيزيائية وخزنة أسرار المختبرات والمخابرات، لكن الإرادة السياسية، التي وقفت وراء المشروع، ومولته بتكلفة مالية باهظة، غير مسبوقة، اختارت إبراز قوتها وتفوقها. هذا ما جعل القلق متفاوتاً في اللقاء اليتيم الذي جمع، بعد إسقاط القنبلة في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، أوبنهابمر بترومان: ينتزع الرئيس الأميركي منديلاً من جيب سترته، كما لو أنه يعطيه لأوبنهايمر، المتألم مما فعلته يداه، لكن ترومان يلوح بالمنديل ليس إلا، ويقول له: انا مَن لي أن أبكي من جراء ما فعلت، من دون أن... يبكي.

ألفرد نوبل عوَّض عن فعلته القبيحة في تصنيع الديناميت، بأن أنشأ جوائز نوبل، ومنها للسلم.

أما أوبنهايمر فكاد أن يُمضي بقية حياته ضحية التشكيك بوطنيته، قبل أن يستعيد كرامته الشخصية والعلمية.

أما ترومان فنسيَه التاريخ، لكن أي رئيس جمهورية يحتفظ بقرار القنبلة، أو يتوق إلى تصنيعها وامتلاكها، مثل علامة القوة الحاسمة.

لهذا فإن شهوة العلم مهما تقدمت- ومنها مشروعات الذكاء الاصطناعي في أيامنا هذه- تبقى رهينة السياسة.

مشاعر العالِم لا تعدو كونها أحياناً مشاعر من يهوى اللعب في مناطق الخطر، وهي مناطق الرغبة. مشاعر الانزلاق في ما لا يمكن العودة منه إلى ما كانت عليه الحياة في الكوكب الوحيد المأهول.

كما لو أن الكرة الأرضية تفاحةُ آدم وحواء في الخبر الديني: تفاحة قابلة في إشعاعاتها تدمير أبعد من شجرة الغواية والمعصية.

ما عايشه أوبنهايمر يتعدى قلق العاصي: ما لم يكن يحلم به مجنون أخرق (تدمير الكوكب) بات ممكناً، بحجم تفاحة كبيرة.

قلق أوبنهايمر يبلغنا، نعايشه، إلا أن سياسات لا تأبه له، بل تتطلع إلى القنبلة غير دولة لبناء قوتها وهيبتها الدولية.

ما قام به أوبنهايمر لم يكن يدرك نهاياته الممكنة،

ولم يكن قادراً على التحكم النهائي به. كما لو أنه يلعب في المجال الأخير، المفتوح، بين الرغبة والقوة، بين غموض الاحتمالات واشتهاء فتح حدود غير جلية.


MISS 3