عيسى مخلوف

وقفة من باريس

المدينة التي سلَّمت مفاتيحها للحَمَام

9 أيار 2020

02 : 00

غابت حدائق باريس هذا الربيع وراء أسوارها العالية. لنا أن نتخيّل من بعيد النّورس الذي يحوم فوق حوض الماء الكبير في حديقة "اللوكسمبور"، والطواويس التي تنتشر في حديقة "باغاتيل" حيث تتفتّح عشرة آلاف شجرة ورد كلّ عام. مطلع الأسبوع المقبل، تبدأ فرنسا بالعودة إلى نفسها بشكل تدريجي، وبحسب المناطق التي تراجعت فيها الجائحة. لكن، تبقى حدائق عاصمتها مقفلة، وكذلك مكتباتها ومتاحفها الكبرى وفي مقدّمها المكتبة الوطنيّة ومتحف "اللوفر"، وكذلك مراكزها الثقافيّة الأساسيّة، ومنها "مركز جورج بومبيدو"، بالإضافة إلى صالات السينما والمسرح والموسيقى والرياضة.

إنّها عودة خائفة ومتردّدة، بل هي محاولة للتعايش مع خطر لا يزال قائماً. وهناك تخوُّف من موجة ثانية للوباء، تعقب الموجة الأولى، ومع ذلك، ستفتح دور الحضانة، تليها، في وقت لاحق، المدارس المتوسّطة والثانوية. وستعود إلى العمل، شيئاً فشيئاً، الشركات والمؤسّسات والمحلاّت التجارية، بالتوازي مع حركة المواصلات والنقل العامّ، وذلك كلّه ضمن شروط محدّدة. المقاهي والمطاعم والبارات ستبقى على لائحة الانتظار. أمّا الهدف من هذه الدَوزَنة البطيئة فيكمن في الآتي: التوفيق بين متابعة رصد الوباء وتطوّره من جهة، ومن جهة ثانية، تفادي الانهيار الاقتصادي الكامل.

ضمن هذا المناخ العامّ، يعيش العاملون في القطاع الثقافي في فرنسا، والبالغ عددهم مليون و300 ألف شخص، حالة من القلق بشأن انعكاس الأزمة على مصيرهم وعلى مصير الثقافة ككلّ. ولقد أصدروا بيانات عدّة في هذا الصدد، كما وجّهت مؤخّراً الممثّلة إيزابيل أدجاني رسالة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون تحثّه فيها على دعم العاملين في المجال الفني والثقافي، وعلى إنقاذ الثقافة "هذه الثروة الديموقراطيّة التي لا تُقدَّر بثمن"، بحسب تعبيرها. واعتبرت أدجاني أنّه لا يجوز التضحية بالثقافة بأيّ حال من الأحوال، ولا أن يكون الإبداع "موضع تساؤل"، لأنه "مصدر لا ينضب للأوكسيجين"، ووجوده، هو أيضاً، شرط "لبقاء الناس أحياء". والمدينة التي سلّمت مفاتيحها للحَمَام، بسبب الوباء الذي جاء من الصين وعمَّ العالم أجمع، لا بدّ وأن تعود لدورها الثقافي الذي تميّزت به وجعلها عاصمة ثقافيّة بامتياز منذ القرن التاسع عشر.

كنّا نتحدّث بالأمس عن قدرات التقدّم التقني والتكنولوجي والـــــذكاء الاصطناعي والإنسان المُضاف، وعن أحلام الإنسان الجامحة التي وصلت إلى حدّ التفكير في حياة أبديّة، هنا على الأرض وليس في الآخرة، بفضل التقدّم العلمي والبحوث الطبّية. وإذ بالعالم يتوقف، فجأةً، عند عتبة وباء لم يوجد له حتى الآن لقاح ولا دواء.

ستترك هذه العاصفة آثارها العميقة على مدينة باريس، على المديين القريب والبعيد، ليس فقط على المستوى الثقافي، وإنما أيضاً على مستويات كثيرة عدّة. وهناك اتجاه نحو تغيير شامل في بنية المدينة وتجهيزاتها. وهذا ما بدأت تفصح عنه الأوساط المعنيّة وفي مقدّمها المجلس البلدي، وذلك لمواجهة وباء كورونا وتحسُّباً لأوبئة أخرى مُحتملة، بل متوقّع حدوثها في المستقبل. من المشاريع التي تُدرَس الآن والتي سيتبدّل معها وجه باريس في الأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة: توسيع الأرصفة والحيّز المخصّص للدرّاجات، جعل الطاولات متباعدة في المقاهي والمطاعم، إعادة النظر في تصميم المدارس والمباني، بناء المزيد من المستشفيات، وإنشاء مراكز ثابتة لتوزيع الكمّامات والماء المعقّم في الساحات العامّة وعند ناصيات الشوارع، مع ما سيكون لذلك من انعكاسات إضافيّة على الوضع الاقتصادي.

ستشهد العاصمــــة الفرنسيّة، إذاً، إعادة نظر كاملة في أساسيّات تنظيمها المديني، من السّكن والتنقّل والتواجد في الحيّز العامّ، بما يتلاءم مع مقتضيات الوضع الصحّي الجديد. وهناك من يعتبر أن ما ستقدم عليه باريس على هذا الصعيد سيكون شبيهاً بما فعله البارون هوسمان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما أعاد تأهيل المدينة فشقّ شوارع وجادّات واسعة، وأنشأ حدائق جديدة، ووسَّع المساحات التي تسهّل عبور الهواء والضوء.

في العام 1887، كتب غي دوموباسّان نصّاً غرائبيّاً، يُعدّ أحد أجمل نصوصه، تحت عنوان "الليل"، وفيه يرصد انتقال باريس من الإضاءة بالغاز إلى الكهرباء. ويأخذنا معه في جولة ليليّة من "الشانزيليزيه" و"قوس النصر" إلى "غابة بولونيا" ومنطقة "الهالّ"، وصولاً إلى نهر "السين". كان هذا في زمن مضى، وثمّة من سيصف لنا، في الآتي القريب، انتقال باريس إلى نمط حياة مختلف، ليصبح النّمط الذي كان، والذي عرفناه حتّى الآن، جزءاً من الماضي.