محمد علي مقلد

الخارج والداخل

من التقاليد السائدة لدى المحللين السياسيين اللبنانيين اعتقادهم أنّ طريق الوصول إلى حقيقة الوضع الداخلي تبدأ من أبعد نقطة في العالم. ربما يكون اليسار هو من أسس لهذا التقليد حين كان يتدرج من تحليل الوضع الدولي ثم العربي ليصل إلى لبنان.

كان يتعزز هذا الاعتقاد مع كل انتخابات رئاسية، ولا سيما بعد عهد فؤاد شهاب الذي قيل فيه إنه ما كان ليحصل لولا اتفاق أميركي- مصري على ذلك، ثم بعد انفجار الحرب الأهلية، وتعيين الرؤساء بقرار سوري أو توافق عربي من الياس سركيس حتى ميشال سليمان. شذ عن هذه القاعدة الرؤساء بشارة الخوري، كميل شمعون، شارل حلو، وخصوصاً سليمان فرنجية. أمّا انتخاب بشير الجميل فكان إثباتاً للقاعدة لا خروجاً عليها، لأنّه اعتبر عدواناً على «حق» نظام الوصاية في اختيار الرئيس اللبناني.

هذه ترسيمة تقريبية وليست صورة دقيقة عن علاقة الخارج بالداخل، إذ ما من مرة إلا وكانت صندوقة الاقتراع في البرلمان اللبناني هي التي تعلن اسم الرئيس، بعد أن تكون الظروف الخارجية قد نضجت. لكن المسألة تحتاج إلى بعض التدقيق، لأنّ تحميل الخارج المسؤولية يشكل عند بعض القوى السياسية منذ الاستقلال حتى اليوم تهرباً من تحمل المسؤولية عما فعلت أيديهم، وعند بعض المحللين التفافاً على صحة التشخيص.

علاقة الخارج بالداخل أيام الاستقلال هي غيرها اليوم، وذلك لسببين: الأول هو أنّ لبنان افتقد إلى رجالات الدولة المؤسسين، ولا سيما بعدما حلّت شريعة الميليشيات محل الدستور، وبات الحق، على رأي لافونتين، للأقوى لا للأكثر جدارة وكفاءة، للفاجر لا للتاجر.

الثاني هو أن الكلام عن السيادة الوطنية في هذه المرحلة من تطور العلاقات الدولية وتطور الأسلحة ووسائل التدخل لم يعد يحمل الدلالة ذاتها التي كان يحملها عند نهاية الحرب العالمية الثانية. كاد التدخل أن يكون محصوراً باختراق الحدود البرية والبحرية والجوية. أمّا في ظل الأقمار الاصطناعية وتوحيد الكرة الأرضية بالاقتصاد فقد بات التدخل أمراً سهلاً لكل من يطلق قمراً إلى الفضاء ولكل من يملك كتلة نقدية ومؤسسة مصرفية وأسهماً في شركة مغفلة أو في البورصة.

تزداد فعالية العامل الخارجي طرداً كلما ازداد العامل الداخلي ضعفاً، والعكس صحيح. ما يعني أنّ العامل الداخلي، حتى في حالة ضعفه، هو الذي يحدد للعامل الخارجي حدود تأثيره. أمّا في حال قوته، أي في ظل الوحدة الوطنية يصبح دور العامل الداخلي حاسماً. المقارنة بين أيلول الأسود واتفاق القاهرة تؤكد هذه الحقيقة، ذلك أنّ تدخل النظام العربي نجح في لبنان فيما أخفق النظام السوري في الأردن.

أثبتت التجربة اللبنانية، في السلم كما في الحرب الأهلية، أنّ استدراج الخارج لا يتم إلا في ظل الانقسام الداخلي. وأنّ التدخل الخارجي مهزوم حتى لو حقق نجاحاً مؤقتاً. من الإنزال الأميركي على الأوزاعي عام 1958حتى الاحتلال الإسرائيلي عام 1982، ومن دخول قوات الردع العربية إلى مرحلة نظام الوصاية، بيّنت الوقائع أنّ لحظة عابرة من الوحدة الوطنية تتفوق على أطول مراحل التدخل الخارجي، أياً تكن طبيعة دوره.

حتى وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا ما كان ليحصل لولا لحظة ندم أصحابها على حصولها، لكن بعد فوات الأوان. ربما لأنّها وحدة أسوأ من كل الانقسامات، ولأنّها وحدة مصالح لا وحدة الوطن ومؤسسات الدولة.

على نواب الأمة، هذه المرة، بعد أن يلتزموا بالتعليمة الخارجية، الاعتراف بأنّ برلمان ما بعد الطائف لم يكن في أي دورة سيد نفسه.