سوزان كولبيل

سنة على احتجاجات إيران...صورة رؤيا بيرايي رمزٌ للاحتجاجات

26 أيلول 2023

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 00

رؤيا بيرايي بالقرب من قبر أمّها

نشرت الطالبة الجامعية رؤيا بيرايي صورة في الليلة السابعة التي تلت مقتل والدتها على يد قوات الأمن الإيرانية. كانت تقف في تلك الصورة بالقرب من قبر أمّها وهي ترتدي ملابس سوداء من دون وضع وشاح على رأسها ويبدو شعرها مقصوصاً عند التدقيق به. كانت تحدّق بالكاميرا مباشرةً وهي تحمل كومة شعر في يدها اليسرى.

التُقِطت تلك الصورة في خريف العام 2022 وسرعان ما انتشرت على نطاق واسع. تأثرت النساء حول العالم برؤيا التي كانت تبلغ حينها 24 عاماً، فقررن قصّ شعرهنّ تضامناً مع الاحتجاجات في إيران. لا تزال تلك الصورة تشكّل مصدر إلهام للفنانين والكتّاب اليوم. في العام 2022، أضافت قناة «بي بي سي» الشابة بيرايي إلى قائمة أكثر النساء إلهاماً وتأثيراً.

بعد مرور سنة تقريباً على تلك الأحداث، تجلس رؤيا بيرايي اليوم في فناء منزل يقع في ضواحي لندن. لا تزال هذه الشابة تتذكر ما حصل في تلك الأمسية التي دمّرت عائلتها. كان ذلك اليوم كفيلاً بتغيير حياتها أيضاً، فقد أصبحت معارِضة معروفة في المجتمع الدولي ويسهل عليها أن تصل إلى أعلى أوساط السلطة.

على غرار آلاف الناس في إيران، انضمت والدة بيرايي، مينو مجيدي، إلى التظاهرات في أيلول 2022 احتجاجاً على القيادة الإيرانية الاستبدادية التي أجبرت النساء الإيرانيات على ارتداء الحجاب. كانت تلك الانتفاضة من أكبر التحركات التي شهدها البلد منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، وقد أجّجها مقتل الشابة الكردية جينا مهسا أميني (22 عاماً).

توفيت أميني بعدما اعتقلتها شرطة الأخلاق لأنها انتهكت قواعد اللباس اللائق في إيران. تذكر التقارير أنها تعرضت للضرب. تقول بيرايي من مكان إقامتها في لندن: «كان موت جينا الشرارة التي فجّرت الوضع».

كانت مينو مجيدي كردية أيضاً. يشكّل الأكراد أكثر من 10% من الشعب الإيراني بقليل، وغالباً ما يكونون أول من ينزلون إلى الشوارع في زمن الاحتجاجات. يعيش معظمهم في غرب إيران، في محافظات كردستان، وأذربيجان الغربية، وهمدان، وكرمنشاه التي تنحدر منها مينو مجيدي ولا يزال والد بيرايي يدير شركة هندسة فيها حتى الآن.

يرفض معظم الأكراد ارتداء الحجاب، لذا أصبحوا في مواجهة مباشرة مع الحكومة في طهران منذ البداية. في غضون ذلك، كرّس المسؤولون والضباط الإيرانيون معظم حياتهم للدفاع عن الجمهورية الشيعية، ويشعر جزء كبير منهم بإهانة شخصية بسبب رفض الأكراد تقبّل الحجاب. يُضاف هذا الوضع إلى مختلف العوامل التي تجعل هذا النقاش مسيساً لهذه الدرجة.

في يوم 20 أيلول، يقول شاهد عيان إن والدة رؤيا انضمت إلى المتظاهرين في كرمنشاه، وراحت ترفع شعار «المرأة! الحياة! الحرية!».

«لا تذهبي»! إنها الكلمات الأخيرة التي قالها لها والد رؤيا. منذ ذلك الحين، بذلت العائلة قصارى جهدها لمعرفة طريقة موت مينو مجيدي. هم تكلموا مع شهود عيان ومع موظفين في المستشفى وشاهدوا فيديوات التقطها أشخاص هواة.

كان الظلام قد حلّ، في الساعة الثامنة مساءً من ذلك اليوم، حين أطلق عضو من قوات الأمن النار على المحتجين، أثناء جلوسه في الجهة الخلفية من دراجة نارية، في واحد من أكثر التقاطعات ازدحاماً في مدينة كرمنشاه. يقال إنه أطلق النار على مينو مجيدي حين كان على مسافة قريبة منها.

عند دفن الأم بعد يومَين على موتها، تقول بيرايي إنها شعرت بأن حياتها انتهت، و»كأنهم دفنوني معها في القبر».

هي تتذكر تلك اللحظات قائلة: «شعرتُ بالخدر والألم في جسمي. جلستُ في غرفتي لأيام ورحتُ أحدّق بالفراغ. ثم شعرتُ باندفاع قوي لقصّ شعري. رحتُ أصرخ وأبكي إلى أن اقتحم أبي الغرفة وانتزع المقص من يدي». لكن كان الأوان قد فات في تلك اللحظة، وأصبحت خصل شعرها الداكن متناثرة على الأرض.

البلد لم يعد آمناً

في بلاد فارس، يُعتبر قصّ الشعر عملاً احتجاجياً، ومن الشائع أن يضع الأكراد خصلاً من الشعر على قبر الميت في فترة الحداد.

بعد أسبوع على وفاة والدة رؤيا بيرايي، انتشرت صورتها حول العالم بين ليلة وضحاها. هي تقول إن حياتها تغيرت في صباح اليوم التالي، فقد شعرت بأنها أصبحت تحت المراقبة وأن حياتها لم تعد آمنة في ذلك المنزل.

تقول بيرايي إنها بدأت تتعرض لنوبات قلق وشعرت بالخوف من أن تعجز عن الخروج من حالة الخدر التي تعيشها. كذلك، شعر والدها وشقيقها وشقيقتها الأكبر منها بعشر سنوات بالقلق من أن تداهم السلطات منزلهم قريباً لاعتقال بيرايي.

قرر أفراد العائلة حينها أن تغادر البلد في أسرع وقت ممكن. قامت العائلة بجميع التحضيرات اللازمة كي تسافر إلى طهران، على بُعد 500 كيلومتر، واصطحبها أحد أقاربها إلى هناك بالسيارة. كانت شقيقتها الكبرى قد تواصلت مع ناشطين منفيين من المعارضة للتأكد من وجود من يعتني بشقيقتها في الخارج.

بعد مرور ستة أسابيع، وجدت بيرايي نفسها في باريس. كانت تقف وسط سجّاد غالي الثمن وثريات كريستال فاخرة في مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. استقبل هذا الأخير عدداً من الناشطين الإيرانيين لإجراء محادثات شخصية معهم في قصر الإليزيه، وشوهد ماكرون في الصور الصحافية التي انتشرت بعد اللقاء وهو يمسك يد بيرايي. لقد كان أول زعيم غربي يضع حركة المعارضة في خانة «الثورة». تقول بيرايي إن ماكرون أبدى اهتماماً صادقاً بها وسألها عن ما يستطيع فعله لمساعدتها، فقالت له: «توقّف عن مصافحة قتلة والدتي». فعاد وطمأنها إلى أنه يقف إلى جانبها، لكنه اعتبر الثورة من مسؤولية الشعب الإيراني.

تضيف بيرايي: «كان دعم ماكرون مفيداً لي». لكن أثار هذا الدعم غضب النظام في إيران. في اليوم التالي، ذكر متحدث باسم وزارة الخارجية في طهران أن لقاء ماكرون مع المعارضين هو «انتهاك فاضح لمسؤوليات فرنسا الدولية في معركتها ضد الإرهاب والعنف».

وبعد مرور ثلاثة أسابيع، تواصلت نجمة هوليوود أنجيلينا جولي مع بيرايي أيضاً، فطلبت منها أن تصف لها والدتها في مقابلة نشرتها قناة مجلة «تايم» على «يوتيوب». تقول بيرايي إن أنجيلينا لا تزال تتصل بها أحياناً.

رؤية مختلفة لمستقبل إيران

مجدداً، أثبت مقتل مينو مجيدي (62 عاماً) وجينا مهسا أميني (22 عاماً) للعالم مدى وحشية النظام الإيراني حين يحاول قمع شعبه. إنها الصور التي توحّد صفوف معظم الإيرانيين ضد حكّامهم. يريد الجميع نشوء إيران جديدة، حتى لو كانوا يحملون رؤية مختلفة عن مستقبل البلد، بمن فيهم الإيرانيون الأكبر سناً الذين يتذكرون حتى الآن عهد الشاه، والعمال الذين سئموا من استفحال الفساد، والشباب الذي يرفض استمرار الظلم. لكنّ الأمر المؤكد هو أن النظام لم يعد يحظى بدعم المواطنين الإيرانيين وخسر بذلك شرعيته.

تدرك القيادة في طهران حجم الاستياء المحلي. يقول العالِم السياسي عدنان الطبطبائي من «مركز البحوث التطبيقية بالشراكة مع الشرق»: «يعرف كبار القادة كل ما يحصل في الديناميات السياسية الاجتماعية في البلد. لكن لا يتبنى السياسيون في إيران السياسات لصالح الأغلبية بل من أجل المحسوبين عليهم، وهم أقلية تتراوح نسبتها بين 15 و20% من المناصرين الأوفياء». بالإضافة إلى النخبة الحاكمة، تشمل هذه الجماعة أيضاً موظفين في الدولة، وعناصر أمن، وكبار رجال الأعمال، وعشرات رجال الدين المؤثرين.

لكن كيف يمكن أن تستمر هذه المعادلة على المدى الطويل، في ظل تراجع عدد المدافعين عن الجمهورية الإسلامية من جهة وتوسّع معسكر المعارضة من جهة أخرى؟ يدرس عدد كبير من أبناء الأثرياء في أفضل جامعات العالم خارج إيران، وأصبحت معظم الأصول قيد ااستثمار على المستوى الدولي. يقول الطبطبائي إن الحكومة تردّ على كل موجة معارضة بنسخة جديدة من الخطابات القديمة التي تستهدف المناصرين الأقل ثراءً، وهي تعتبر الاحتجاجات في إيران نتيجة دائمة لمؤامرات الأعداء الخارجيين، وهذا ما يبرر قمعها بصرامة فائقة وإلا ستجازف إيران، وفق هذه النظرية، بمواجهة مصير سوريا وليبيا والعراق.



رؤيا بيرايي بالقرب من قبر أمّها



هل يمكن أن تنجح الثورة في إيران يوماً؟

هذه المعطيات جعلت إسقاط النظام الديني في طهران مستحيلاً منذ عقود. يظن المراقبون أن الثورة الحقيقية يجب ألا تقتصر على أشخاص شجعان ينزلون إلى الشوارع للاحتجاج. قد يستلزم إسقاط النظام الراهن تحضيرات مكثّفة، ودعم شركاء من داخل النظام، وموظفين كفوئين، وزعيماً استثنائياً، وكفاءة كافية للسيطرة على دولة مدججة بالسلاح تشمل 90 مليون نسمة وتساوي مساحتها خمسة أضعاف حجم ألمانيا.

يقول المعارضون إن البلد لا يخلو من المهارات السياسية، إذ تعجّ سجون إيران بقادة كفوئين يمكنهم أن يوجّهوا البلد نحو مستقبل أفضل. في الأشهر الأخيرة، بدأت جماعات المعارضة في المنفى تتعاون في ما بينها للمرة الأولى بعدما واجهت خلافات دائمة. لكن فشلت كل انتفاضة حتى الآن بسبب لجوء النظام إلى العنف في كل مرة. تقول رؤيا بيرايي: «القوة تصنع الحق».

أصبحت بيرايي جزءاً من الناشطين المعارضين الذين يعجزون عن العودة إلى بلدهم اليوم خوفاً من التعرض للاعتقال فوراً. هي لم تبقَ في باريس لفترة طويلة، وقد جاءت إلى لندن في زيارة عابرة. لقد قررت عزل نفسها في بلدة في شمال إنكلترا حيث عاشت شقيقتها لبضع سنوات. قدّمت بيرايي طلب لجوء، وهي تظن أنها ستتلقى رداً إيجابياً قريباً. لكنها لا تبلي حسناً بشكل عام، فهي تشعر بأنها معزولة عن العالم. في أول خمسة أسابيع بعد مغادرة إيران، بالكاد تفوّهت بكلمة واحدة. حتى أنها لم تأخذ عناء النهوض من سريرها في صباح كل يوم. تضيف بيرايي وهي ترسم ابتسامة على وجهها: «بدأتُ أتكلم الآن على الأقل. قلبي تقدّم في السن هذه السنة». كل من دعمها حتى هذه المرحلة عاد إلى حياته الطبيعية الآن، بمن فيهم ذلك أصدقاؤها في باريس، وماكرون، وأنجيلينا جولي. لكنها لم تسترجع وضعها الطبيعي بعد. لم تعد حياتها السابقة موجودة.


MISS 3