د. عصام خليفة

تحيّة إلى هاشم قاسم

27 أيلول 2023

02 : 04

مع غياب الصديق هاشم قاسم يخسر الوسط الثقافي واحداً من أهم العاملين للإنماء الثقافي في مجتمعنا. ترافقنا معه منذ أيّام الدراسة في قسم التاريخ في كليّة التربية بالجامعة اللبنانيّة. نظّمنا الرحلات داخل لبنان وفي الخارج، أقمنا الحفلات في الريف وفي المدينة. تناقشنا داخل الصف وفي خارجه في كل الموضوعات. ألقينا الخطب في الجمعية العامة لرابطة الطلبة. واحتدم النقاش في الهيئة الإدارية لرابطة الطلاب حيث كنّا معاً ممثلين للطلّاب. ترافقنا في التحرّكات والتظاهرات أواخر ستّينات وأوائل سبعينات القرن الماضي.

وفي التعليم الثانوي الرسمي انخرطنا في تعليم مادة التاريخ وحاولنا التجديد في هذه المادة من خلال مشاركتنا في صياغة كتاب مدرسيّ للمرحلة الثانويّة مع بعض الزملاء.

خلال الحروب العبثيّة التي اندلعت بعد العام 1975، استمرّت العلاقات الوثيقة بيننا وكان موقفنا النقدي من العنف الطائفي موحّداً. وقد كان من كبار المشجّعين لنا في الحركة الثقافيّة – أنطلياس. وقد شارك في الكثير من المحاضرات والندوات وتكريم أعلام الثّقافة في المهرجان اللبناني للكتاب. كنت أشعر بفرحه الكبير عندما يزورنا في مقرّ الحركة وكان يستفيض في تحليل الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وخاصة الثقافيّة، باعتبار أنّه كان يكتب بشكل دوري في مختلف صحف العاصمة وفي بعض المجلّات والصحف العربيّة المهمة. وعندما كنت أزور غرب العاصمة كان الموعد الأوّل معه في أحد مقاهي شارع الحمرا، نتداول في مختلف الأوضاع والهموم والمواضيع. وغالباً ما كانت تحليلاتنا متوافقة.

كنّا نستشيره في الأسماء التي يجب أن نكرّمها سنوياً باعتبار أنّه مراقب دقيق لحركة الإنتاج الفنّي والفكري على امتداد مساحة الوطن.

وكم كان فرحاً ومعتزاً بالصداقة التي تجمعنا وخاصةً عندما ناقشنا كتابه المرجع عن فيروز والأخوين الرحباني، وكتابه عن جريمة انفجار مرفأ بيروت.

في السنة الأخيرة زارني مع صديقه الأستاذ طبّارة وزوجته في قريتي الشماليّة وقضينا نهاراً ممتعاً وكان مسروراً جدّاً بإنتاجي الزراعي وبخاصة خل التفاح. وكان مصرّاً على أن أردّ الزيارة في منزله العامر في شارع فردان. وقد زرته وكان كريماً في استقبالي على مائدته العامرة.

هاشم البعلبكي الأصيل متعمّق في تاريخ بعلبك وعائلاتها وجغرافيّتها. موسوعي الإطّلاع على تاريخ لبنان والعالم العربي. متمكّن من المتابعة الدقيقة للصراعات الإقليميّة والدوليّة. مدقّق في تاريخ الموسيقى العربيّة واللبنانيّة، وهو من أعمق العارفين بفن الأخوين الرحباني.

كان هاشم لبنانيّاً أصيلاً يعتزّ بلبنانيّته ويعرف أهميّة الحريّة في صياغة لبنان الكبير. وعندما احتفلنا ببيروت عاصمة عربيّة للثقافة كان حريصاً على أن يؤلّف دراسة موثّقة عن الدور الطليعي للمثقّفين اللبنانيّين في حركة التنوير العربيّة.

كان يشكو إليّ ما يجري في بعلبك مدينته المفضّلة من تغيير في ديمغرافيّتها وجغرافيّتها وفي تقاليد وأعراف أهلها من مختلف الطوائف. وكان مستاءً من الممارسات التي تجري ضد مكوّنات أساسيّة في المدينة تتناقض مع موجبات المواطنيّة الحقّة.

ويا صديقي هاشم،

ها أنت ترحل والوطن بأمسّ الحاجة لعقول متنوّرة أمثال عقلك، ومجتمعنا بأمسّ الحاجة لرجال يتمتّعون مثلك بالحكمة. ومؤسساتنا الثقافيّة تعاني من الخواء وهي بأمسّ الحاجة لأمثالك من المثقّفين المتمكّنين من علم التاريخ ومن العلوم المساعدة ومن الآداب والفنون وغيرها من المعارف المختلفة.

لقد حملت يا صديقي في شخصيّتك الهادئة أعمق ما في بعلبك من تراث حضاري متراكم. كنت محبّاً وسمحاً وكنت محاوراً عقلانيّاً يمتلك ملَكة الثقافة النقديّة؟

لقد كنت مطّلعاً بعمق على السياسات الإقليميّة والدوليّة العاملة لانهيار دولتنا ومجتمعنا واقتصادنا وتربيتنا وثقافتنا، وكنت طوال مسيرتك التربويّة والثقافيّة، عاملاً للدفاع عن لبنان الدولة والمجتمع والثّقافة، واستمراراً لدور هذا الوطن في قيادة النهضة العربيّة.

ويا صديقي هاشم،

ها هي الجامعة اللبنانيّة التي ناضلنا معاً دفاعاً عنها من أجل جودة التعليم فيها وتظاهرنا معاً لاستحداث الكلّيات التطبيقيّة فيها وتعزيز وضع طلّابها وإداريّيها وأساتذتها، وبناء المجمّعات الجامعيّة اللائقة، هذه الجامعة تنهار أمام أعيننا والضالعون في هذه الجريمة بعض من يملك دكاكين تجاريّة لتعليم الجهل وتزوير الشهادات على المستويات كافة. وكم تناقشنا في أوضاع هذه المؤسّسة وكم وقفت إلى جانبي في المعارك التي خضتها ضد العاملين لانهيار المؤسّسة.

يا صديقي هاشم،

ما يعزّيني أن القيم التي دافعت عنها طوال مسيرتك الثقافيّة والتربويّة ستنتصر على كل التحدّيات، وأنا على يقين من أنّ زوجتك الفاضلة والمؤسّسة التي عملت فيها بإخلاص (مركز طبّارة)، ستحافظان على تراثك شهادة إخلاص ووفاء لشعبنا وتقدّم أجياله القادمة.


MISS 3