رحل خالد خليفة أحد أبرز كتّاب الرواية والدراما السوريتين في العقدين الماضيين. فعلى رغم انتشار الموت في بلده، إلا أن رحيل هذا الروائي المميز، والشخص الحيوي المحب للحياة، مؤلم وصادم. وكأنه إعلان رفض للتطبّع مع تحوّل الموت أمراً عاديّاً وتصيير الإنسان رقماً رخيصاً. لم يمت بعبوة أو قذيفة، لا خلال معركة ولا داخل سجن، إنما نوبة في القلب المريض قتلته في بيته، وفي وطنه الذي رفض مغادرته على رغم معارضته النظام وبغضه الحرب.
رحيل مؤلم وصادم لكون خالد خليفة لم يتجاوز الستين من العمر (مواليد 1964). وهو كذلك لأن هذا المثقف، الذي درس الحقوق في جامعة مدينته حلب (1988)، ليس صاحب مشروع روائي نذر حياته لبلورته فحسب، بل لكونه ابن جيل من الكتاب والفنانين يقاوم منذ ثمانينات القرن العشرين لإثبات نفسه وجدارته. وقد واجه هذا الجيل صعوبات جمّة، كما في السياسة والمشهد الثقافي كذلك في الحياة وتوفير مقومات العيش، لكنه اتسم بالعناد والإصرار والنهم الثقافي ومواصلة التجربة حتى الأخير. وما إن بدأت كلمة هذا الجيل وصورته ولوحته التشكيلية... تخرج من العزلة وتتجاوز الأسياج والقيود، وتنتشر في الخريطة العربية، وحتّى خارجها، حتى غادر خالد خليفة.
ولا غرابة وسط هذا، أن خالد، الذي يُعد في مقدّمة عابري الحدود السورية، عِبر نصّه الروائي أكثر من مساهمته الدرامية، اعتبر ترشّحه إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية- «بوكر» (Booker) في دورتها الأولى عام 2008- انتصاراً لجيله. وعلى رغم ذهاب الجائزة إلى الروائي المصري المخضرم بهاء طاهر (عن روايته «واحة الغروب»)، إلا أن خالد خليفة فرح لما يعنيه ذلك إلى جيله. فترشيح رواية «مديح الكراهية» (صدرت عن «دار الآداب» في بيروت) كان بمثابة جائزة لخالد خليفة ورفاقه ورفيقاته، وللأدب السوري عموماً. وكان ذلك قبل الحرب السورية التي شتّتت ذاك الجيل، جغرافيّاً وسياسياً، ودفعته إلى خوض تجارب فردية في سوريا وأصقاع العالم.
وقد رأت «الجائزة العالمية للرواية العربية»، وفق موقعها، أن «خالد خليفة تمكّن في هذه الرواية من سرد تجربة القمع المزدوج في ظل التنظيمات الأصولية وداخل مجتمع محروم من الديمقراطية». فيما رأت «دار الآداب» في بيروت أن «مديح الكراهية» «تقتحم حقبة من تاريخ سوريا وتعيد طرح الأسئلة الحارقة عن الصراع بين الأصوليين والسلطة، وهي حقبة كادت تقضي بها ثقافة الكراهية على الأخضر واليابس. وتقود الرواية القرّاء من مدينة حلب الآسرة وعوالم نسائها وحياتهن السريّة إلى أفغانستان، مروراً بالرياض وعدن ولندن وأمكنة أخرى، لتنسج تفاصيل لا شك أنّها ستترك روائحها ودمها وكراهيّتها، كما ستترك رغبةَ الحب، والدهشة، في أرواح قرّاء هذا الكتاب». كل هذا، دفع بالمخرجة هالة محمد إلى إنتاج فيلم «مديح الكراهية».
وبعد ذاك الترشّح الذي سلّط الضوء على خالد خليفة وجيله السوري، وفتح الطريق أمام ترجمة أعماله إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية والنرويجية والإيطالية ولغات أخرى، حلّ الويل في بلاده. وقاوم خالد خليفة ذلك بمواصلة الكتابة، والأهم استمراره بالحفر في المجتمع السوري. وروايته الجديدة، «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» (2013)، تتعمق في تعرية «آليات الخوف والتفكك خلال نصف قرن». وقد فازت بجائزة نجيب محفوظ للرواية التي تمنحها «الجامعة الأميركية» في القاهرة. وصدرت عن «دار الآداب» في بيروت و»دار العين» في القاهرة (2013). وهذه إشارة على الموقع الذي بات فيه الروائي خليفة. فعلى رغم أن صدور كتاب واحد في عاصمتين عربيّتين أمر يتعلّق في الغالب بالسوق وخريطة التوزيع وسعر الكتاب، إلا أنه ذو معنى ثقافي أيضاً، يدل على انتشار اسم الكاتب وطلب القارئ لأعماله.
وإبان الحرب وفجائعها، انشغل خالد خليفة المسكون بمدينته حلب الحاضرة في معظم أعماله بالموت. فكتب «الموت عمل شاق» (2016) و»لم يُصلِّ عليهم أحد» (2019). وهي آخر أعمال هذا الكاتب النشيط الذي أسس مع مجموعة من الكتاب مجلة «ألف» التي استمرت من 1990 حتى 1993، سنة صدور كتابه الأول «حارس الخديعة». وقد أصدرت دار «نوفل» (هاشيت أنطوان) في بيروت كتبه الستة.
ولخالد خليفة الذي بدأ مسيرته شاعراً مع تحفّظه على نشر ما يكتبه من قصائد لإصراره على أنه ليس شاعراً إنما روائي، وجه آخر غير كتابة الرواية. ففي العام 2000، الذي أصدر فيه رواية «»دفاتر القرباط»، ظهر توقيعه كمؤلّف إلى جانب اسم المخرج هيثم حقّي على مسلسل «سيرة آل الجلالي». ويطل هذا العمل، من خلال سيرة عائلة، على مجتمع مدينة حلب.
وواصل خالد خليفة تجربته في الصناعة التلفزيونية والمدرسة الدرامية السوريتين، لكنّه بعد عمله «التراثي» الأول انتقل مع المخرج حقي إلى الزمن الحاضر والحياة المعاصرة في مسلسل «قوس قزح» (2001). وله أيضاً «ظلّ امرأة» (2007)، و«العرّاب» (2016) وأعمال أخرى.