سعيد غريّب

سبل الحرية ولاءاتها

4 تشرين الأول 2023

02 : 00

تعود بي الذاكرة، وأنا اشاهد مآل التظاهرات التي عرفتها بيروت أخيراً رافعة راية الحريات، إلى ذات نهار من العام 1998، حين لبّيت وعدد من الزملاء من الدول العربية دعوة للتعرّف إلى المجتمع الأميركي، من خلال زيارة ولايات أميركية خمس. يومها كنّا في نيويورك نقارب التمثال الرمز، الحاضر في الذاكرة صوراً وأفلاماً وشعارات، وعنيت تمثال الحرية الذي أهداه الفرنسيون للمدينة. واذ استوقفتني عند مدخل التمثال لافتة كتب عليها No Smoking, No Eating, No Drinking ما معناه لا للتدخين، لا للأكل ولا للشرب.

نظرت إلى الدليل، وكانت فتاة جميلة، وفي الوقت عينه التفت إلى التمثال- الرمز، وقلت لها: ما هذه الحرية التي تبدأ بلاءات ثلاث؟! فاكتفت الفتاة بالابتسام وقالت: «أعجبتني الملاحظة».

نحن، في هذا الشرق الحزين، فطرنا على الحرية، وتمسّكنا بها دوما كقيمة حياتيّة وفكريّة واعلامية. معها يزدهر الخلق وتحلو في أجوائها الحياة. الا أنّ الاشكاليّات النابعة من مقاربة الحرية وممارستها حيناً، واستغلالها أو قمعها بمختلف السبل حيناً آخر، تسيل الحبر والدم.

ففي ظلّ سلطة يغرقها العجز والفشل، ويشتّتها جهل بما يخطّط للمنطقة، ومن ضمنها لبنان، ترانا في فصل جديد من فصل الالهاءات الأسبوعية التي تمارسها هذه السلطة باتقان، بعيداً من جوهر الأزمات السياسية والاقتصادية المتراكمة، ووفق روزنامة مدروسة ومخطط محكمين. ونشهد لذلك سلطة تريد أن يتلهّى الناس بعضهم ببعض. فنراها تارة تُبدي تسامحاً مع نوبات الحريات على الطرقات وتأذن بالتعبير السلمي والصراخ، ونشاهدها تارة أخرى تغضّ الطرف عن استخدام العنف ضد المنادين بالحريات. ووسط هذه المعمعة، نرى بعين أخرى استخدام الحرية كمجرد سلعة، على يد أكثرية السياسيين وبعض الاعلام وبعض الصحافة، وذلك لمآرب شخصيّة حيناً وتجاريّة أحياناً.

على تمسّكنا بالحرية وأفضالها، ثمة خوف من أنّ الحريات في لبنان لا ضابط لها اطلاقاً، ما قد يهدد بسلوك الطريق الأسرع نحو الفلتان فالانفجار. وثمة استنتاج أيضاً أنّ الحرية ليست على انفلات، في جميع أصقاع الارض، ولا سيّما في الغرب. وقد يكون في الأمر نسبة عالية من الحكمة منطلقها حرص على الأمن القومي في أي دولة من دول العالم.

أمس واليوم، بتنا نفهم لماذا الغرب، وفي مقدمه الولايات المتحدة وأوروبا، يتفاهم مع الصحافة والاعلام، معتمدين على آليات محددة الأفق والحدود، دعماً لمنطق الدولة وأسرار الدولة، عندما تتعرض هذه الدولة بل أمنها القومي للاهتزاز والخطر. من هنا يفهم لمَ أخفى الاعلام الأميركي جثث الثلاثة آلاف الذين قضوا بتفجيرات 11 ايلول 2001؟ ولمَ لم يبرز الاعلام الفرنسي احراق آلاف السيارات وتكسير معالم فرنسا خلال اعمال الشغب التي تتكرر منذ سنوات؟

بتنا اليوم ندرك، أكثر من أيّ يوم مضى، لماذا كان الرئيس سليم الحص يشدّد على أنّ في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديموقراطية؟ في اشارة إلى أنّ الحرية وحدها ليست كفيلة بالممارسة الديموقراطية، وإن كانت من شروط نجاحها.

لذا نقف كصحافيين مع الحرية المطلقة شريطة الا تؤذي البلاد وتعرض الأمن القومي للخطر. ونحن مع «عقيدتي الحرية» كما قال عنها ذات يوم رئيس تحرير الكريستيان سيانس مونيتور اروين كانهام. يقول كانهام في مقدمة كتابه Commitment to Freedom إنّ «الأخبار والتعليق عليها اليوم أكثر من أي يوم مضى مطلب ضروري اذا كانت البشرية تريد تجنب الكارثة العظمى. الأخبار هي مفتاح الفهم. بلا أخبار لا تستطيع البشرية الارتفاع إلى مستوى اتخاذ القرارات المصيرية التي تواجهها في هذ العصر المعقد بالمشاكل. ومن غير الأنباء لا تستطيع البشرية احتمال المشاكل والمتاعب بالحكمة المطلوبة».

والمطلوب اليوم هو النضج في مقاربة هذه الأخبار وقراءة أبعادها حتى لا تلهينا قياداتنا بالشعارات أو بأي شيء، فتبعدنا عن فهم الواقع الدولي الضاغط علينا وهو واقع صراع، لا واقع شفقة ورحمة خاصة بالصغير. وكأنّ التاريخ يعيد نفسه في مقولة «لبنان بلا صديق» التي طرحتها صحيفة لوموند الفرنسية، في عنوان مقالها الافتتاحي خلال حرب التحرير في العام 1989.


MISS 3