حسان الزين

عندما يُجيب الصحافي اللبناني عن سؤال "ما هو دوري؟" نستطيع أن نقيّم التحوّلات

زاهرة حرب: آن الأوان للإعلام الغربي أن يُعيد النظر في معنى عدم الانحياز

7 تشرين الأول 2023

02 : 05

زاهرة حرب: طلابي الإيطاليون يذكّرونني بالشبه بين ممارسات الإعلام في بلدهم ولبنان

زاهرة حرب، التي عرفها اللبنانيون واللبنانيات وجهاً إعلامياً، من الأصوات الأكاديمية والمهنية التي أشارت إلى تغييرات في التغطية الإعلامية الغربية للحرب في أوكرانيا. وإذ فحصت ذلك متقصّية تأثيراته ومعانيه، قارنته مع تجارب أخرى للإعلام الغربي، ومنها في منطقتنا. من هنا، أهمية كتابات حرب التي ترأس قسم دراسات الصحافة الدولية في جامعة سيتي في لندن. وهي عضو في مجلس إدارة/ أمينة في Dart Centre Europe for Journalism and Trauma وشبكة ماري كولفن للصحافيات والشبكة العربية للصحافيين الاستقصائيين. وتعمل في مجلس إدارة الهيئة المشرفة على التنظيم الذاتي للصحافة في بريطانيا. وهي رئيسة تحرير مجلة الشرق الأوسط للثقافة والإعلام. وعملت في مجلس المحتوى في Ofcom وأمينة في مجلس أمناء شبكة الصحافة الأخلاقية.



هل تعتقدين أن الحرب في أوكرانيا غيّرت في معايير المواكبة الإعلامية، نحو فسح المجال للتعبير عن مواقف سياسية وشخصية كانت محرّمة وممنوعة سابقاً، أم أن أداء وسائل الإعلام الغربية والإعلاميين فيها، الذي كان منحازاً مع أوكرانيا وحلفائها، ضد روسيا، هو مرحلي، أو استثنائي، أو سقطة، وسيحصل تقويمٌ لهذا؟

مع بداية الحرب على أوكرانيا، بدأنا نشاهد تغطية تعطي للحيز العاطفي وليس الموضوعي مكاناً على شاشات التلفزة. عدم الانحياز والحيادية اللذان طالما تغنى بهما الإعلام في بريطانيا تحديداً غابا، وفُسح المجال للتعبير عن التضامن والتعاطف مع الشعب الأوكراني في مواجهة الاجتياح الروسي. استخدمت مسميات مثل الاحتلال والمقاومة والعدوان، لم نكن نسمعها او نقرأها عند تغطية حروب وصراعات أخرى. هل يجب التمسك بالحياد عندما يكون أناس أبرياء عرضة لممارسات تنتهك الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقوانين الدولية المرافقة؟ جوابي هو لا. وهذا ما قلته في بداية الحرب. أنا مع أن نسمي الأشياء بأسمائها، وتحديداً عندما يتعلق الأمر باجتياح قوة عسكرية لأرض ليست أرضها، وتعريض سكانها للقتل أو الإبادة أو التهجير أو التطهير العرقي.

ألا يفحص هذا صدقية الإعلام في الغرب، إذ يعلّق المعايير ويغيّرها متى وأين يشاء؟

أنا أعتقد العكس. اعتقد أنه آن الأوان للإعلام الغربي أن يُعيد النظر في ماذا نعني بعدم الانحياز عندما نكون أمام خرق واضح لشرعة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية. أحد المسؤولين عن تطبيق المعايير المهنية في إحدى المؤسسات العريقة في بريطانيا، قال لي تعليقاً على تغطية الإعلام البريطاني للحرب على أوكرانيا وتغليب العاطفة على المعايير الأخرى التي لطالما كانت عماداً لكل المعايير الصحفية، إن عدم الانحياز لا يأتي مفرغاً من القيم. وأنا أؤيد هذا الطرح وأُثني عليه. لكن المطلوب أن ينطبق على حروب وصراعات أخرى سواء أكانت قريبة منا جغرافياً وثقافياً أم بعيدة. أنا، في كتاباتي، سألت ماذا يعني أن تكون موضوعياً عندما تجد ظلماً يطاول أناساً ابرياء، في وجه عنصرية مقيتة، أو خطاب كراهية يحرض على أذية أشخاص أبرياء على أساس دينهم أو عرقهم أو جنسهم او هويتهم الجنسية. ماذا يعني أن تكون موضوعياً بوجه التمييز والإقصاء على الأسس التي ذكرتها.

كيف تتلقّين الأصوات الناقدة والمعارضة لهذا الأداء، وما تأثيرها؟

الأصوات علت للتذكير بضرورة عدم الانجرار بشكل كامل نحو تغطية أحادية. وأعادت التذكير بالقيمة التي سيفقدها الإعلام البريطاني في حال تم التخلي كلياً عن معايير استند إليها لتعزيز دوره في المساءلة وخدمة العامة. هناك نقاش صحي وفعلي يجري الآن، مع الحرب الأوكرانية، ولن يتوقف قريباً إذ وضع فكرة الموضوعية المطلقة في العمل الصحفي تحت المجهر. أمر لم يكن حتى مسموحاً النقاش في شأنه مع بداية القرن الواحد والعشرين.

هل يذكّرك هذا بالإعلام في منطقتنا، حيث الإعلام يطابق المواقف السياسية الرسمية؟

تغطية حرب أوكرانيا في الإعلام الغربي ذكرتني بنا نحن الصحافيين اللبنانيين عند تغطيتنا للعدوان الإسرائيلي على بلادنا. كانت تغطيتنا مشحونة بمحاولات إبراز الوجه العدواني لجبروت عسكري اتخذ قرار الاعتداء فقط لأنه يستطيع. ولكن، لا بد من القول إن العنصرية التي شابت بعض التغطية الغربية للحرب على أوكرانيا عندما تعلق الأمر باللاجئين ومقارنتهم تخطت كل المعايير والقيم المهنية، ضاع المراسلون وارتبكوا فأخطأوا وأساؤوا.



زاهرة حرب



لقد مر الإعلام العربي في مثل هذه التجربة الغربية - الأوكرانية، خلال الربيع العربي، حين قرّر بعض الوسائل الانتقال من مواكبة الحدث إلى صنعه، فما كانت انعكاسات ذلك، كيف تقرأين هذا انطلاقاً من الوضع الراهن؟

بعض وسائل الإعلام في العالم العربي لعبت دوراً إيجابياً أثناء تغطية الثورات العربية، لكن المشكلة برزت عندما اتضح أن الحماسة في التغطية لإزاحة الديكتاتوريات لم تكن متساوية عندما وصل الحراك إلى دول تعتبر صديقة للممول الذي تعتمد عليه تلك القنوات. وسائل الإعلام لم تصنع الثورات، بل واكبتها ودعمتها في أحيان، وأساءت إليها في أحيان أخرى.

في موازاة الأداء «الأوكراني» في الإعلام الغربي، هل انسحب ذاك «التغيير» على منطقتنا: هل في رأيك تغير تعامل وسائل الإعلام والإعلاميين مع قضايا المنطقة، لا سيما المتعلقة بإسرائيل والعرب؟

لم ينسحب بعد، ولكن الصوت ارتفع، ولا أعتقد أن هناك عودة إلى الوراء على رغم صعوبة الخرق عندما يتعلق الأمر بإسرائيل التي ما زالت تحظى بدعم ناتج عن تداعيات الحرب العالمية الثانية وإحساس أوروبا بالذنب تجاه الملايين الذين خسروا أرواحهم في المحارق النازية.

تتابعين أكاديميّاً، وتنشرين آراءك بين حين وآخر، الإعلام في الشرق الأوسط، هل يمكن إجراء مقارنة ما بين الإعلام في هذه المنطقة الواسعة والمتعددة والساخنة وبين الإعلام في مناطق أخرى من العالم (أوروبا وأميركا، أو العالم الثالث)، وبماذا يتسم الإعلام في الشرق الأوسط، خصوصاً في المنطقة العربية منه؟

الإعلام في منطقتنا متجذر في السياسة. المنظومات الإعلامية في المنطقة ليست واحدة، ولكن القاسم المشترك هو أن محاولات الحكومات والمسؤولين في هذه الدول على اختلافها العقائدي والسياسي، للسيطرة على كل ما يُنشر ويكتب إن كان عبر القانون أو عبر أدوات وطرق مباشرة أو غير مباشرة، أمر شائع. الإعلام يدور في فلك السلطة وأحزابها، أيّاً كان شكلها أو حجمها. هذا ليس حكراً على منطقتنا، بل واقع تعيشه كثير من الدول. النظم الإعلامية هي مرآة للنظم السياسية، ليس عربياً فحسب بل عالمياً. طلابي الإيطاليون يذكرونني دائماً بالشبه بين ممارسات الإعلام في إيطاليا ولبنان. لقد تميز الاثنان بالاستقطاب السياسي والتعددية السياسية. للأسف، في لبنان الاستقطاب السياسي الأحادي ساد، وطغى التحريض على كثير من المضمون في الإعلام السائد.

كان لبنان مدرسة رائدة في الإعلام، كيف هو الآن، ولماذا حصل التراجع؟

الأزمات الاقتصادية المتتالية تركت أثرها الفادح على استقلالية وسائل الإعلام وحرّيتها في لبنان. الصحافي/ة أصبح مكبلاً بالحاجة الاقتصادية المعيشية، لذلك كثر عدد الصحافيين المتماهين مع التوجهات السياسية لمؤسساتهم. غاية العديد من وسائل الإعلام في لبنان ودورها لم يعد كيف يجعل تحقيق المصلحة العامة من أولوياته، وإنما التمادي مع المشاريع السياسية على اختلافها العقائدي والمذهبي. الإعلام في لبنان كان ولا يزال مرآة للسياسة، ولكن الولاء في السنوات الأخيرة عكس أحساس الأحزاب والقوى السياسية والدينية في البلاد بأن المعركة وجودية وأن الإعلام على أنواعه مركزي في هذه المعركة. ولكن، يجب القول أن التعميم حتى في الحالة اللبنانية لا يصح، لأنه على رغم ما ذكرت لا يزال هناك صحافيون متمسكون بدورهم في إعلاء المصلحة العامة على كل اعتبار آخر. الصحافي اللبناني بحاجة إلى أن يسأل نفسه/ها سؤالاً أساسياً هو ما دوري كصحافي؟ وكيف لي أن أدافع وأبرر الدور الذي أديته؟ عندها نستطيع أن نقيم ماذا تحول في فهمنا لمهنتنا، ولماذا؟

عين الحزين الفاقد



كانت زاهرة حرب إعلامية تنقّلت بين قنوات تلفزيونية لبنانية عدة (الجديد، تلفزيون لبنان والمستقبل)، ثم قرّرت متابعة دراساتها العليا في الإعلام، فسافرت وطالت هجرتها، فغابت عن الشاشة والبلد، لكنّها تعمّقت في دراساتها وخاضت تجربة أكاديمية ومهنية جديدة نوعاً ما. وهذا، بذاته، قصة مفرحة ومحزنة في آن. وتؤكد الدكتورة زاهرة حرب أن «ليس هناك أي بعد شخصي في قرار السفر لاستكمال الدراسات العليا. إنما كان هناك دائماً رغبة في زيادة المعرفة وصقلها. كان هناك دائماً هاجس للتطوير الذاتي، ولم يكن التوجه نحو العمل الأكاديمي هو الغاية. كان التوجه هو التحصيل العلمي، ومن ثم العودة لمتابعة العمل الصحافي والإعلامي في لبنان بمعرفة مصقولة. لكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005 بدّل المخطط، وهو من زودني بمنحة دراسة الماجستير والدكتوراه. كان يجب أن أعود بعد تحصيل الدكتوراه، لكن الأوضاع في لبنان تدهورت وأصبح الصراع المذهبي طاغياً. ما عزز قناعتي بالبقاء».

ولم يقتصر الأمر على ذلك، هناك في بريطانيا، اكتشفت حرب أن «البحث العلمي بالإنكليزية عن الإعلام والصحافة في لبنان كان شبه معدوم. لقد تحسن مع ارتفاع عدد الباحثين العرب في القرن الواحد والعشرين، وشعرت أنني في مكاني هنا في لندن، وفي المساهمات التي أقدمها على الصعيد الأكاديمي أو البحثي أو التدريبي أو الاستشاري. فهي على تواضعها ذات تأثير أكبر من وجودي في لبنان».

وعلى رغم ما حصّلته وحقّقته، ما زالت تنظر إلى لبنان «بعين الحزين الفاقد». وتضيف: «نحن نعيش في الخارج، ولكن نحمل هموم الداخل معنا أينما ذهبنا. أنا كنت في بيروت عند حصول انفجار المرفأ، في 4 آب 2020. لم أشعر في حياتي بأن بيروت خذلتني، لكن الشعور بالخذلان في أعقاب الانفجار كان طاغياً. هذا من جنيناه بأنفسنا، ولا أؤمن بأي نظرية تضع اللوم على الغريب». ولا تتردد في القول: «يؤلمني الابتعاد كما كثيرين من أمثالي، ولكني لا أعتقد أن العودة بالمعنى العملي قريبة. أزور الأحبة والأهل بشكل دائم».






MISS 3