كريم مروة

وجوه وأعلام

المفكر الاشتراكي اللبناني الرائد خيرالله خير الله

19 أيار 2020

02 : 00

إعدام المثقفين العرب في بيروت على يد جمال باشا
تعرفت الى اسم خيرالله خيرالله عندما قرأت كتاب الأديب اللبناني محمد دكروب "جذور السنديان الحمراء" . إذ ورد اسم خيرالله خير الله في الكتاب كخطيب في الاحتفال الذي أقامه "حزب الشعب" بمناسبة أول ايار عيد العمال عام 1925 في سينما كريستال في العاصمة بيروت. وجاء في التعريف عنه بأنه مفكر وأنه أحد رواد الفكر الاشتراكي الأوائل. لكنني لم أجد اي معلومات عنه الى أن قرأته بالصدفة بحثاً مطولاً عنه في أحد كتب صديقي المؤرخ اللبناني الدكتور عصام خليفة. ثم فيما بعد قرأت بعض المعلومات التي قدمت عنه خلال الندوة التي أقيمت تكريماً له في لدته جران في منطقة البترون عام 1979. وفي هذين المرجعين اكتملت الصورة الحقيقية عنه. إلا أن بحث الدكتور عصام خليفة كان الأكثر وضوحاً والأكثر تفصيلاً عن سيرته.



تشير سنوات عمره من (1882-1930) الى المرحلة المهمة من تاريخ لبنان في زمن السلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي. وهي مرحلة حافلة بالأهداف والتطورات التي كان فيها لخيرالله خيرالله مواقف جريئة. وكانت البداية في مواقفه تتصل بالمتصرفية والاقتراحات التي وضعها لتطويرها وتوسيع المساحة الجغرافية للبنان من دون أن يحدد المناطق. وكأني به قد أطلع على الخريطة التي وضعها الفرنسيون عام 1863 في أعقاب تاسيس المتصرفية والتي تشير الى لبنان التاريخي من اقصى الشمال الى أقصى الجنوب ومن الساحل الى ما بعد سلسلة الجبال الشرقية.

وأبدأ هذه الكلمات التي أستحضر فيها سيرة هذا المفكر اللبناني الديمقراطي العقلاني وقبل أن أقتطف بعض فقرات من الكلمة التي ألقاها نسيبه سمير خير الله في الندوة المشار إليها حيث أجرى بحثاً عن خيرالله خيرالله: "كان خير الله خيرالله من أهم الشخصيات التي ناضلت من أجل القضية اللبنانية ومن أجل تحقيق الاستقلال التام منذ العهد العثماني حتى عهد الانتداب، مروراً بمرحلة الحرب العالمية الأولى. كرس القسم الأكبر من حياته من أجل الدفاع عن لبنان واستقلاله، حتى أنه مات من أجل قضية استقلال هذا البلد، كما يقول رئيس جمهورية الاستقلال الشيخ بشارة الخوري في مذكراته حقائق لبنانية، بعدما قال: "خيرالله خيرالله هو الذي هيأ لنا طريق الاستقلال". نظر خيرالله أيضاً من أجل تحرير الشعوب العربية من الاحتلال العثماني بأعماله ومواقفه وكتاباته وكان من أهم الذين اسهموا في توضيح القضايا أمام المحاكم الدولية. وكتب الكثير حول رؤيته في الاصلاح الاجتماعي والتربوي الاداري. لن استطيع مهما كتبت ومهما قلت أن أفي خيرالله حقه، وعرض لبعض مواقفه منها موقفه من انتقاد أصدقائه السوريين والعرب لمطالبته باستقلال لبنان وندائه الى العالم سنة 1916 دفاعاً عن الاستقلال وموقفه من فرنسا والانتداب والوحدة في التنوع. وكان خيرالله طنوس خيرالله سباقاً، سابقاً لعصره، عالج جميع القضايا والمواضيع التي ما زال العالم يتخبط فيها واقترح لها الحلول، منها مسألة السلام في الشرق الأوسط، ومسألة الوحدة العربية، والتعايش والحوار الفكري بين الأديان، مسألة الخلافة في العهد الذي كان فيه السلطان عبد الحميد يحاول انتزاع هذا الدور والتفرد به، يوم كان المسلمون يمثلون 90% من سكان الأمبراطورية العثمانية لتبرير أحقيته بالسلطة عليهم. وتناول خيرالله قضية تحرير المرأة والدفاع عن أهمية دورها في المجتمع، في الوقت الذي لم تكن فيه المرأة في أوروبا قد حصلت على حق الاقتراع. عالج القضية الأرمنية والمسألة الكردية وحاول إصلاح المجتمع والمدرسة والإدارة.




سعد زغلول



مزاحم الباجة جي



جبران خليل جبران



البطريرك الياس الحويك



سعدالله الجبري



رياض الصلح




غير أن كلمات سمير خيرالله لا تقدم لوحدها الصورة الكاملة عن سيرة حياة هذا المفكر الكبير لذلك سأعود الى البحث المهم الذي وضعه عن خير الله المؤرخ عصام خليفة. ففي ذلك البحث الكثير من الشواهد التي تغني المعرفة عنه في الفكر وفي السياسة وفي المواقف الوطنية وفي المواقف العقلانية ذات الصلة بالوطن اللبناني كما رأى خيرالله بلداً سيداً مستقلاً. أولاً عن السلطنة العثمانية ثم عن الانتداب الفرنسي. والجدير بالذكر أن خيرالله لم يكتف فقط بالدفاع عن وطنه لبنان، بل ربط بين وطنيته اللبنانية وبين عروبته. وكان من أهم المواقف التي اتخذها على الصعيد العربي اشتراكه عام 1913 في المؤتمر العربي الذي عقد في باريس حيث كان يقيم. وكانت له علاقات مع عدد من المشاركين. والمعروف أن ذلك المؤتمر قد اتخذ قرارات تاريخية مهمة أدت بعدد من المشاركين الى أعواد المشانق في بيروت ودمشق على يد السفاح جمال باشا. والمعروف في الآن ذاته أنه جمع في منزله في باريس بعد بضع سنوات من انعقاد المؤتمر عدداً من الشخصيات العربية كما أشار الى ذلك عصام خليفة وهم" سعد زغلول وحمد الياس والأمير فيصل ومزاحم الباجة جي وعوني عبد الهادي والتميمي ورياض الصلح وعبد الرحمن الشهبندر وفوزي الغزي وسعد الله الجابري وأحمد شوقي واسكندر عمون والبطريرك حويك ويوسف السودا وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وداود مجاعص. وتشير هذه الاسماء ليس فقط الى التنوع في الفكر والسياسة بل الى المغزى الذي يشير إليه ذلك الاجتماع. والغريب أن عصام خليفة لم يشر الى ما صدر عن ذلك الاجتماع من مواقف مكتفياً بذكر أسماء المشاركين فيه. وفي تقديري أن مثل ذلك الاجتماع لا يمكن إلا أن يكون قد بحث في ما أدى إليه المؤتمر العربي في سنة 1913 من نتائج كارثية والمخطط الذي كان يمكن أن يكون قد اتفق عليه المجتمعون في المرحلة المقبلة، مرحلة ما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى التي انتهت فيها السلطنة العثمانية.

وكانت لخيرالله خيرالله في تلك المرحلة مواقف جريئة في ما يتعلق باستقلال لبنان بعد مؤتمر الصلح وبداية الانتداب الفرنسي والقضايا المتصلة بالبلدان العربة وبالأخص سوريا الجارة الشقيقة للبنان. وأورد هنـــــا نص الرسالة التي أوردهـا لخيرالله الشخصية السـورية التاريخية سعــد الله الجابـــري في 28 كانون الأول 1921 تنويهاً بمواقف خيرالله: "سيدي الفاضل والأخ الكامل. ما وجدت أحداً لم يشهد بعلو نفسك وبمتانة وطنيتك، ولا يجهل قدرتك وما فطرت عليه من المهمة والمروءة لكل ما يعود نفعه على الأمة والوطن". ثم يطلب منه المساندة في توزيع نداء موجه من المؤتمر السوري الفلسطيني لمن يراه من أعضاء لجنة الشؤون الخارجية وأعضاء مجلس الشيوخ الفرنسيين. ثم يطلب منه المعاونة في تحرير جريدة فرنسية عربية بإشرافه تكون غايتها الدفاع عن القضية العربية السورية.



الجزّار جمال باشا



والمهم هنا ونحن نستحضر سيرة هذه الشخصية التاريخية أن نشير الى الجوانب المتعلقة بمواقفه الفكرية والاجتماعية. وكان حريصاً على تأكيد علمانيته تمايزاً عن بعض الشخصيات التاريخية التي بقيت في مواقفها تربط وطنيتها وعروبتها بانتمائها الى طائفتها الاسلامية أو المسيحية. وكان يؤكد على العدالة الاجتماعية كقضية أساسية استناداً لفكره الاشتراكي. ودافع عن التسامح في الفكر والسياسة والدين كما ناهض بقدر خطير التزمت العقائدي والسياسي والديني.

وباسم اشتراكيته ينتقد كل أنواع الاستغلال والمستغلين، ويدافع عن العمل والفلاحين ويقول في هذا الصدد: "إن مجتمعنا بعيد من أن يكون عين الكمال. فكله آلام ومحن وقلق وبؤس ضارب أطنابه وليس هذا المنظر الشاق مدعاة الى اليأس بل واجب المفكر أن ينظر بطريقة لمداواة سوء الحال أو على الأقل لتحسين ما نراه من حالة مجتمعنا. لقد ردد صدى العالم المتمدن كلام الإخاء والعدل. فهل من حقوق الإخاء أن يقيم الشقاء فوق القسم الأكبر من البشر في وقت أن القسم الآخر يصرف ويلهو!. لقد آن الأوان أن نحقق في مجتمعنا الإخاء. وأن يكون مثالاً كصنج رنان فارغ. بل كدستور للعمل ليبلسم الجروح الاجتماعية المقرحة. لقد آن أن يكون العدل بين البشر عدلاً حقيقياً لا عدلاً مبنياً على الأنانية الذي يردد كل غني عبارته وقلبه ملآن قساوة، عدل مبني على الإخاء البشري الذي به نلد إخوة في الحقوق لا غني ولا فقير ولا عامل ولا متمول". وتأكيداً على موقفه الاشتراكي أسس في العام 1910 حزباً اشتراكياً مع عدد من المثقفين، والمعروف أنه أسس في ما بعد في باريس الرابطة اللبنانية والتي كانت لها فعالية واضحة لكل محلل لمسار الأحداث، والمعروف أيضاً أنه كان يمارس الكتابة في الصحافة الفرنسية ويراسل بعض الصحف العربية وهي كتابات حرص على أن يوضح فيها مواقفه السياسية والفكرية من مختلف القضايا.

تلك هي شذرات مما توفر لدي لا سيما من البحث القيم لصديقي المؤرخ الدكتور عصام خليفة، شذرات من صيغة هذه الشخصية اللبنانية التي لم تأخذ حقها من الاهتمام الرسمي.


MISS 3