SOS... ومَن منكم لم يسمع بهذه الحروف الثلاثة؟ من منكم لم يسمع بالفتى فادي، «فادي اللي ما سقط، يلي أخدتو SOS وربّتو وعلّمتو وهلق عم يساعد طفل صغير تاني تيصير متلو»؟ إنها جمعية قرى الأطفال في لبنان التي حمَت بحبٍّ كبير أطفالاً وجدوا الأسرة والأم والعين الساهرة والكتف والأمان والفرج بعد يتمٍ وضيق. لكن، اليوم، SOS ليست بخير أيضا. أقفلت قرية. أقفلت قرية ثانية. وسرَت الأخبار و»القيل والقال». أصدرت الجمعية بياناً (غير مقنع). فهل ما مرّت به عارض ستتجاوزه ويبقى لأطفال- أيتام أو تم التخلي عنهم- بيت وسقف وأم وإخوة وأخوات؟
هناك من سيقول، المنطقة «وين» ونحن «وين»؟ نحن نتكلم عن SOS في وقتٍ تفوح فيه رائحة الموت كريهة وتقترب منا تدريجياً، كما المدّ والجزر، مرجئة كل شيء، كل كل شيء - الاحلام والتمنيات والضرورات وحتى الحياة - الى وقتٍ ما لا ندري متى يأتي. هكذا نحن منذ أمد بعيد. حروب ومعارك وأفق مسدود وضيق واقتصاد بـ»الأرض» أسقط مؤسسات وأنهك وشلّع وطناً. لكن، في سواد الصورة، هناك مؤسسات فيها نور كثير يفترض ألّا يتلاشى. وهذه حال SOS. لهذا فتحنا ملفها اليوم بالذات.
تنتشر قرى الأطفال في كلِ القارات. تأسست الجمعية في لبنان في العام 1964 وأنشئت بعده بخمسة أعوام، أي في العام 1969، اول قرية في بحرصاف. وأول من شغل منصب الرئيس الأول لمجلس الإدارة كان رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق يوسف جبران. وتدريجاً تفرعت القرية الى اربع قرى: واحدة في بحرصاف وثانية في كفرحي في الشمال، قرب دير مار مارون، وثالثة في صفاريه في الجنوب، بالقرب من جزين، ورابعة في البقاع. القرية البقاعية أقفلت ولحقتها - الى الإقفال - في أيلول 2023 قرية كفرحي. فهل شارفت إمبراطورية SOS في لبنان على الأفول؟
شح ودمج
ساد هرج ومرج في الأفكار والتعليقات المرافقة للإقفال الاخير. فما كان من جمعية قرى الاطفال في لبنان إلا إصدار بيان أكّدت فيه «أن قرار إقفال قرية الاطفال في كفرحي ناشئ بصورة أساسية عن الشحّ في التمويل وفي الموارد المالية والهبات التي كانت تتغذى منها الجمعية. وذلك يعود الى الأزمة اللبنانية والعالمية التي لم تترك قطاعا إلاّ واثرت عليه. ولأن عدد الأطفال في هذه القرية قليل آثرت الجمعية نقلهم الى قرى أخرى ودمجهم فيها».
السبب مادي بحت. لكن، هؤلاء الأطفال في قرية كفرحي سلخوا من جديد من محيطهم وهذا هو بيت القصيد. هؤلاء نزحوا من منطقة الى أخرى ومن أم الى أم ومن سقف الى سقف آخر. فماذا يمنع أن يعود السقف الجديد ويقفل على من فيه ما دامت الأزمة مستمرة - كما هو ظاهر - الى ما لا نهاية؟ هل قرى الأطفال في لبنان باتت متروكة لمصيرها؟ طرحنا السؤال على SOS وأتى الجواب من مسؤولة قسم التبرعات والتواصل في الجمعية شانتال حداد: «لا، لا يمكن أن تكون قرى SOS متروكة لمصيرها، فقرى الأطفال هي تحت إدارة إختصاصيين نفسيين واختصاصيين تربويين ومدير قرية ومقدمي رعاية شاملة وهدفنا الأول يبقى تأمين جودة ورعاية وحماية لأطفالنا».
ماذا عن عدد الأطفال اليوم في القريتين الصامدتين؟ تجيب حداد «عدد الأطفال لم يتغير اليوم (هم ذكروا في الموقع الإلكتروني الخاص بهم أن العدد 709 أطفال ضمن 225 عائلة. هؤلاء اليوم تحت رعاية الجمعية في لبنان وتمّ دمج بعض البرامج. هذا الدمج ضمن الخطة الإستراتيجية التي وضعتها المؤسسة بدعم من الخبراء والمتخصصين لمواجهة المرحلة ومن أجل تطوير برامجها في سبيل تأمين أفضل جودة ورعاية لأطفالها» أضافت: «تأسست قرى الاطفال قبل 55 عاماً في لبنان ورافقت آلاف الأطفال والأسر الأكثر حاجة ضمن برامجها في الرعاية البديلة أو في برنامج تمكين الأسرة. وقرى الاطفال تنشط في 136 دولة حول العالم منها لبنان وتساعد مئات آلاف الأطفال سنوياً، إنطلاقا من رؤية SOS الدولية أنه يجب على كل طفل الإنتماء الى عائلة يحصل من خلالها على الحب والإحترام والأمان. تعمل SOS لبنان على إيجاد دعم كبير ومستمر من شركاء ومتبرعين لأن خدماتها موجهة الى أكثر فئات مجتمعاتنا حساسية، ولأننا نؤمن بأن حق كل طفل أن ينمو في بيئة آمنة وسليمة، لذلك لا بدّ من تكاتف الجهود للعمل على جعل أطفال لبنان يحصلون على حقوقهم على الرغم من الظروف الصعبة».
الأزمة مالية
SOS في خطر. هي مستمرة بإرادة ناسها والمعنيين بها لكن، السؤال: ماذا لو استمرّت الأزمة بالإستعار؟ ماذا يمنع من إقفال قرية ثالثة ثم رابعة ما دام السبب المعلن مادياً والمادة شحيحة. هناك، في SOS يجزمون باستمراريتهم في تقديم الخدمات لكن، من اجل أطفال لبنان الذين تركوا في بداياتهم لحالهم نكرر السؤال: هل من يهتم بهؤلاء اليوم؟
Nothing in the world is more important than to care for a child (لا شيء في العالم أهم من العناية بطفل). هذا ما قاله ذات يوم هيرمان غمينر مؤسس SOS العالمية. لهذا، في سوداوية المشاهد الهابطة على البلد من كل حدب وصوب فتحنا ملف SOS لبنان.
في كفرحي (البترون) حزن اليوم. فإنشاء قرية SOS النموذجية في وسط بلاد البترون كان يُعدّ في وقت من الأوقات إنجازاً. ويومها كانت تعود ملكيتها ووجهة إستثمارها للرهبنة اللبنانية. فعاليات من بلاد البترون تواصلت بعيد إقفال القرية مع إدارة قرى SOS للبحث في إمكانية إيجاد أي حلول لإبقاء قرية كفرحي ناشطة فكان الرد: هناك قرار عالمي بإقفال جميع قرى SOS وتبديل وجهة عمل المؤسسة في العالم، بحيث لا يبقى الأولاد وأمهاتهم في قرى معزولة، بل يتم توزيعهم كل عائلة في منزل مستأجر في مبنى فيحصل إندماج مع الناس، على أن يبقى في كل قرية عائلة واحدة، وبالتالي ستتحول قرى SOS الى قرى مخصصة لنشاطات إجتماعية وثقافية وتنموية بعد موافقة الهيئات التي وهبت الأراضي التي أنشئت القرى عليها. هذه المعلومات من فعاليات بلاد البترون.
ماذا بعد؟
يحكى في بلاد البترون عن فساد طاول المؤسسة «فقد تبرع شخص هناك بمبلغ خمسة آلاف دولار للقرية في كفرحي وسلم المبلغ للمدير، بحضور شخص آخر من كفرحي، بعد فترة «طلعت ريحة» المدير وأبعد من موقعه ليتبين بعد إجراء جردة حسابية أن هذا المبلغ لم يذكر لا من بعيد أو قريب. فهل الفساد والسرقات طاولا المؤسسة الإنسانية التي تعنى بالأطفال؟
يُحكى في بلاد البترون عن مصير القرية بعد التخلي القسري عنها «ستعود، او يفترض ان تعود، الى مالك الأرض دير ماريوحنا مارون كفرحي».
ستعود الأرض الى مالكها وسيتوزع الأطفال - مبدئياً - على قريتين صامدتين. اللهمّ إن استمرتا صامدتين. قرى الأطفال SOS موجودة في القارات الخمس، أكثر من 440 قرية أطفال منتشرة في 135 دولة منها تسع دول عربية، تستوعب الأطفال المحرومين من الرعاية الابوية البيولوجية. هناك سبق والتقينا نساء قررن ان يكنّ أمهات بديلات. ماما كاتيا كانت واحدة من هؤلاء النساء التي طالما أغدقت على الأطفال كل مشاعر الطيبة والحنان. كانت تخاف عليهم من نسمات الهواء. سبق وزرنا بيت بحرصاف الذي تتوزع بيوته بجمالية هندسية تتماشى مع البيئة السكنية المحيطة، فتتكلل مبانيها بالقرميد الأحمر. هي تفاصيل طالما حرصت عليها الجمعية لتتلاءم البيوت البديلة مع الأرض والمحيط. هي بيوت فسيحة مريحة جدرانها ملونة وأثاثها جميل، تلبي إحتياجات الصغار: أربع غرف نوم في الشقة الواحدة. غرفة الأم وغرف الأولاد وتضم كل واحدة ثلاثة أسرّة كحد أقصى. ويحوي البيت الواحد بين ستة أولاد وتسعة. أمور كثيرة تغيرت. وأمور كثيرة للأسف ستتغير. ووحده تأكيد الجمعية بأن SOS باقية باقية باقية.
إنتزاع طفل من قرية ووضعه فجأة في قرية أخرى لا ينسجم مع أفكار المؤسسة. فالأطفال ليس سهلاً عليهم الإنسلاخ من مكان عانوا قبل ان يعتبروه بيتاً بديلاً، يكبرون فيه تحت جناحي أم وبالقرب من أب - او من يمثل دور الأب - لكل الأطفال.
للشباب والشابات أيضاً
في SOS أيضا بيوت للشباب والبنات، ينتقلون إليها حين يكبرون. فهل ستصمد؟ سؤالٌ يترك للأيام. في كل حال، هناك بيوت عدّة لهؤلاء بينها منزل الشباب في سن الفيل الذي أنشأته الجمعية عام 1975. ومنزل البنات في السهيله وأنشأته عام 1978. وبيت البنات في جعيتا وأنشأته عام 1991. ومنزل الشباب في عبرا- صيدا وأنشأته عام 1994. وفي العام 1997 شيدت مبنى البنات في عبرا- صيدا. وفي العام 2001 أضيف الى بيوت الجمعية منزل الشباب في جبيل... حصل ذلك أيام البحبوحة.
في أيام الشحّ تختلف الأمور. إننا في شحّ. التبرعات مطلوبة من خلال OMT فالبنوك معطلة. والأطراف، الذين طالما كانوا يساعدون ويتبرعون، يعيشون في كل الكرة الأرضية أزمات. وهنا، يضاف الى كل ذلك، بعض الفساد بأوجه وأشكال. والنتيجة؟ SOS تصرّ أن تبقى لكن هل ستتاح لها سبل البقاء؟ فلننظر الى وجوه أطفال SOS لعلّنا نستمد أملاً بأن الآتي أفضل.