شربل داغر

"التراث" بوصفه إجماعاً

16 تشرين الأول 2023

02 : 00

أينما أقرأ، أقع على: «التراث»، في الكتب، في المقالات، في الحوارات. هذا يوحي، على الأقل، أنه لفظ مستقر، بعد أن جرى عليه التوافق من دون شك.

هذا ما لا أجد له مستنداً، ولا فحصاً. إذ بات مفهوماً فكرياً مقبولاً، بدليل عنوان الكتاب: «نحن والتراث» وغيره.

وهو عنوان يشير إلى علاقة بين الحاضر (أي النحن) وبين السابق (أي التاريخ المشترك بالضرورة).

هذا التقابل نجده بين: التراث والحداثة وغيرها من الثنائيات.

الأكيد أن «التراث» يشير إلى لفظ جامع، ويحوي جميع ما مضى، على أنه يَستبقي من السابق ما هو مقبول منه للعيش معه في الراهن (الطيب تيزيني، حسين مروة، محمد عابد الجابري وغيرهم).

هذا ما نجده في ألفاظ مقابلة: مثل patrimoine في الفرنسية، وheritage في الإنكليزية... ولكن مَن يدقق في هذه الألفاظ يتحقق من أنها تتقارب في قليلها، وتتباعد في كثيرها.

ففي الفرنسية، كما في الانكليزية، يشير اللفظ خصوصاً إلى ما هو من الممتلكات المادية خصوصاً، مثل الحديث عن الإرث في العائلة عند تنفيذ وصية.

أما في العربية، فإننا نجد اللفظ يشير إلى ما هو من الممتلكات الدينية والفكرية والأدبية والثقافية خصوصاً. بل قد يجد الدارس أن «التراث» يعني، عند بعضهم، الإسلام حصراً، ابتداء من متنه الديني، وانتهاء به.

إلا أن المتغير في «حياة» هذا اللفظ هو أنه يحل محل ما كان يشتمل عليه لفظ «النهضة»، على أن هذه كانت تعني موقفاً متجدداً يعني، في بسيطه، الانتقاء والتفقد في الإرث، مثلما يفعل الوارث ويتصرف بالتركة.

فما كان يقوم على الاختيار، وعلى النقد، في ما وصل من العصور السابقة، بات يقوم على الجمع والقبول، على أن لنا سابقاً قديماً، مقبولاً مثل ارتكاز أكيد ومتين للحاضر.

هذا ما جعل «التراث» معصوماً في مجموعه، بل تتم استعادته مثل هوية ثابتة، بعد أن جرى تغييبها أو تشويهها.

هذا ما خفف من أي علاقة نقدية بالسابق، وهذا ما منع عنه من أن يكون: الماضي. وفي هذا سياساتٌ طلبَ منها الوارث أن يكون صاحب الشرعية، صاحب التصرف، من دون أن يُقدِّم شيئاً مستجداً، سوى كونه الأحق بالتركة، والأمين لها.

وبدل أن يكون الميراث قابلاً لتفقدٍ وفحصٍ ودرسٍ، بات خطاباً يتذرع به صاحبُه للتحكم بمصير الجماعة والمجموع العام.

وفي هذا المجال، يصبح صاحب الخطاب الديني هو الأقوى حجة من دون شك.

في هذا كله، لا تعود الحياة محل حاجات وأمنيات، ولا الحاضر محدِّداً للعيش التاريخي والاجتماعي،

بل نصبح مجندين نخدم كائنات من كلام، لا تتيح غير التحكم وكمِّ أفواهِ الحياة والتجدد.

بينما كتب جبران: «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة، والحياة لا تقيم في منازل الأمس».


MISS 3