جيمي الزاخم

مَجهودٌ تَوْثيقيّ يُتَوّجُ أم كلثوم ومجهودَها الحربيّ

17 تشرين الأول 2023

02 : 05

أم كلثوم

7 تشرين الأول 2023 هو يوم نبض أرضٍ خبّأت وطنها في جيوب قلوبها. رسمت من ترابه شمساً تَقيها جوعَ الذّل. هو يوم خَبَزَ إكليلَ القيود وشوكها، وقدّمه سماءً خضراءَ حمراء ساخنة. قبيل انطلاق عدّاد الأسرى، المجهود العسكريّ، الصواريخ واسترجاع التواريخ، كنّا ختَمنا عدّاد صفحات كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي». يبدأ مع هزيمة 1967 التي بصمت جيلاً ولّد أجيالاً وأفكاراً. يؤرشف ويؤرّخ الكاتبُ والباحث الموسيقي كريم جمال هذه المرحلة التي خبأت فيها أم كلثوم وطنَها في جيوب صوتها. ورسمت- بمجهودها وأغانيها- شمساً تُشرق على جمهور قدّم لها محبّة مكلّلة بسماء. منذ 1967 حتى 1972، حملت أم كلثوم «صوتَها سلاحاً» في سلسلة حفلات وفعاليّات لجمع تبرّعات للجيش المصريّ.






استُهلّ السرد من عتبة حزيران 1967. أم كلثوم متفائلة: «الحفلة التالية ستكون في تل أبيب». نبش الكاتبُ 7 نداءات إذاعية توجّهت بها للجنود على الجبهة. قبالة كل هذه الثقة، تنتظر كقارئ ردّةَ فعلها على الهزيمة. ولأنها لا تريد هزيمةَ الروح المصرية، تبدأ رحلاتِها الداخلية والخارجية. ينطلق السرد دائماً مع كلّ فصل، من مطار القاهرة وآلية الدعوة وبنود الاتفاق. يعرّفُ عن علاقتها الفنّية والسياسية بالبلد المُضيف. يفصّص الكاتب الحفلات بالأيام والثواني، بالألوان والأزياء، بالأرقام وسبائك الذهب، بالجماهير ومقاعدها، بالكلمات وأنغامها. لو كان بمقدوره لكان قدّر طولَ الكعب الذي انتعَلَتْه، واتّجاهَ الرياح التي لفحت منديلَها وعشقَ جماهيرها. في باريس، أمير عربي شَهَرَ مسدّسه للحصول على بطاقة بعد نفاد التذاكر. راسلها ديغول: «أنتِ ضمير أمّة». في مطار تونس، احتاجت أم كلثوم حوالى الساعة لتجتاز مسافة مئة متر بسبب الاحتشاد الجماهيري. في المغرب، أُعلن يوم الحفل عطلةً رسمية. في ليبيا، جنّدت صوتها للمقاومة الفلسطينية. في لبنان، أُعلنت حالُ الطوارئ بمطار بيروت مع ازدياد عدد الطائرات القادمة من العالم العربي. في أبو ظبي، انتهى بناء المسرح المخصص للحفل قبل 4 ساعات من رفع الستارة. في السودان، ارتمى شاب تحت قدَميها يقبّلهما. هذا مشهد تكرّر في أكثر من بلد، مع مشاهد كثيرة أخرى طرّزتها إبرةُ السرد بخيوط صفحات تحوّلت إلى دليل ثقافيّ سياحيّ لكلّ بلد.

في عصر الذاكرة البلاستيكية، سافرْنا بالزمن إلى الحقبة التي توّجت الهرم الكلثومي وثبّتته بمساميرَ من صوت وموقف في الوعي الجماهيريّ. قد تظنّ الكاتب والباحث الموسيقي كريم جمال رافق أم كلثوم في الكواليس، أو بين مقاعد الجماهير. لكنّه شابّ ثلاثينيّ! أتى من بحر مدينته الاسكندرية إلى محيط تعب الموادّ الأرشيفية. من الأدوات البحثية العلميّة، استند إلى التغطيات الإعلامية والمقالات الصحافية المصرية، العربية والأجنبية. الصور الفوتوغرافية لازمت المحتوى. واللغة البسيطة الأنيقة سارت مع تسلسل زمنيّ تداخلت مراحلُه في مفارقَ طفيفة. هكذا، أمسك بالسطور وعزلها عن همسات الهواء الضعيفة. مسح جمال، بحبّه وبمنديل أم كلثوم، الغبارَ عن زجاج تلك الفترة دون النفخ عليه. هو اختار ألا يكون الكتاب «حكماً على مراحل التاريخ وأشخاصه».

هذا الكتاب التوثيقيّ الأرشيفي هو مرساةٌ لكلّ سفينة اجتماعية سياسية ستُبحر لتتوسّع باستكشاف سيرة أم كلثوم ومصر. فالرموز الفنية لا تتمدّد بالصوت واللحن والكلام فقط. والكتاب لم يهجرْ إشكاليةَ الفن والسياسة. هذه الثنائية استوطنت مسيرتَها في كل العهود. قدّم الكتاب ما يلزم لرسم ملامحَ واضحة عن علاقتها مع عبد الناصر: أيّهما الأقوى ومن يحتاج الآخر أكثر؟ عبد الناصر كلّل قيمةَ أم كلثوم. كانت سيدة الجمهورية الأولى. حملت الناصرية عن قناعة وإيمان. بقيت وفيّةً لها حتى في تفكيرها بالاعتزال. طالتْها انتقاداتٌ تجاوزت الفنّ لتصل لعبد الناصر. استطراداً، يُدرك الكاتب أهميّة دور الإعلام في بناء الصورة وترسيخها. الصحافة التي التقطت «كوكب الشرق» من النجوم ووضعتْها بين الناس بألقاب كـَ»المواطنة الأولى والمناضلة، وفنانة الشعب»، هي نفسها الصحافة التي انكفأت عن أم كلثوم في عهد السادات. فغُيّبت نشاطاتُها الفنية والاجتماعية لتحجيمها وتقييدها في سنواتها الأخيرة.

هذه السنوات الاخيرة دقّقها الكتاب فنّياً كحالة تستحقّ رواية. حاربت العمرَ بصوتها. لم تعشْ «على سمعة ماضيها، بل بدأت تعيش على سمعة حاضرها ومستقبلها». لم تُبقِ أداءها على سرير هامد. بقي صوتها قبلةً شهيّةً لكلّ قصيدة شاعر. بخلفيّته الموسيقية والأكاديمية، يؤرشف كريم جمال المرة الاخيرة التي غنّت فيها كل أغنية. يوثّق عدد التكرارات للمقاطع. يقيّم فنّياً ويحلل نفسياً تسجيلات هي الأفضل في مسيرتها الفنية. ويربط صوتها بخيطان الجمهور الذهبية. هذا الصوت استحال «متهدّجاً» بعد وفاة عبد الناصر. بدأ ينسحب منها. فقرّرت إغلاقَ الستارة على صوتها وحفلاتها مع أغنية «القلب بيعشق كل جميل». استبدلت عبارةَ «يا رب واقبلنا» بـِ»يا رب وانصرنا». وصيّتها كانت بأغنيتِها! وكما ظهّرت دراسةُ هذه السنوات الناحيةَ الفنّية، أطلّت شخصيةُ أم كلثوم الإنسانة. هي المؤمنة، الملتزمة دينياً. تسلّم للقدر. مع احتمال سقوط طائرتها، تستند الى صمتها والآيات القرآنية. التفاصيل ترسم شكلَها الخارجي مع جسد أجهدتْه الجولات. هي دولة وجمهورية. ذكية. قوية. حازمة. تتحكم بزوايا التصوير. تمنع بثّ بعض أغانيها أو حفلاتها المصوّرة.

في هذا العمل البحثيّ الفنّي- السياسي الفخم، قرّر الكاتب ألّا يحمل مفاتيحَ خزائن قلبٍ حجبتْه أم كلثوم. هذا القلب الذي وصفه محمود درويش»مغلق كحبّة جوز يابسة». لكنّ حبّات الجوزالأخرى، التي قطفناها من على شجرة كريم جمال وأم كلثوم، كانت خضراء بطعم الحب والفخر الطازج. يُلوّن اليدين برائحةِ المتعة والقيمة، ويلهب العقلَ بأسئلة عن رحلة حنجرة وامرأة وبلاد.


MISS 3