البروفسور أنطونيوس أبو كسم

التّخاذل العربي لمحاكمة إسرائيل: العدالة على الأطلال

20 تشرين الأول 2023

02 : 00

كلّ مرّة يستشهد أبرياء جرّاء نزاع مسلّح مع إسرائيل، يتشدّق الزعماء وأصحاب المنابر لتكرار عبارات الاستنكار مع التكبير بالتهديد والوعيد. لم نشهد يوماً موقفاً عربياً مشرّفاً يحمل إجراءات من أجل إدانة المجرمين. للأسف ليس للعدالة مكان في الأنظمة العربية، فإذا استعملت تكون على شرف قمع المعارضين للنظام أو للانتقام السياسي. لم يتطوّر لدى الأنظمة العربية مفهوم العدالة ليرقى إلى محاكمة مجرمي الحرب، لا ندري إذا كان الأمر يتعلّق بمفهوم العدالة لديها أو بسبب الخوف من إسرائيل. والجامع المشترك بين هذه الأنظمة هي سعيها الدائم للتطبيع مع إسرائيل كأن العلاقة معها أصبحت شرطاً أساسياً لتطوير العلاقات مع الغرب.

عقدة النقص العربية هذه، تستدعي التغاضي عن جرائم إسرائيل، والأهم أنها في إطار عقد اتفاقيات سلام، مع دولة لم تُرد السلام يوماً منذ أن قتلت المسيح لأنّه ملك سلامٍ حقيقيّ على أرض فلسطين الميعاد. ومنذ ألفين وثلاثة وعشرين سنة قتل أطفال بيت لحم بسبب ولادة ملك السلام. اليوم يقتل أطفال غزّة وأطفال فلسطين. والبارحة قتل أطفال لبنان في قانا وفي مروحين وفي مرفأ بيروت، ولم تتحرّك الدولة ولا الأحزاب المقاومة لمحاكمة القتلة. بل بالعكس شهدنا على طمسٍ للوقائع وعدائية قلّ نظيرها للعدالة.

إنّ مجزرة المستشفى المعمدانيّ ذكّرتني بمجزرة قانا. بالرغم من صدور تقرير دوليّ جرّاء عمل بعثة التحقيق الدوليّة الذي أجراه المايجور جنرال الهولندي فرانكلين فان كابِن والذي يدين الجيش الإسرائيلي بارتكاب المجزرة، إلا أنّ الدولة اللبنانية التزاماً بالخطّ الوطني للأشقاء والشقيقات لم تحرّك ساكناً، وما الأمل بدولة وبدول لا تحترم شهداءها. ونفس ردّة الفعل الرسميّة واجهت تقرير لجنة التحقيق الدوليّة المعنيّة بلبنان (دي ألبا، كليمنتي، سواريس، عثمان وراكيس)، الذي صدر في تشرين الثاني 2006 بشأن حرب تموز 2006 والمنشأة بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان دإ1/2، والذي أدان أيضاً الجيش الإسرائيلي. لكن للأسف، أصبح القرار 1701 هو ميثاق الشرف، واستبدلت عدالة الشهداء بقواعد الاشتباك القائمة على عدالة حمورابي: قتيل مقابل قتيل، وآلية مقابل آلية.

بالرغم من انضمام كافة الدول العربية لاتفاقيات جنيف للعام 1949 دون استثناء، التي توجب على الدول الأطراف ملاحقة مجرمي الحرب (المادة 146 من الاتفاقية الرابعة)، إنّ أيّة دولة عربية لم تتجرّأ على فتح محاكمة ضدّ مجرم حرب إسرائيليّ. بالرغم من نظام الاختصاص الدولي الشامل، طبقاً لهذه الاتفاقيات، لم يلاحق إلاّ عدد لا يتعدّى أصابع اليد من القادة الإسرائيليين أمام محاكم دول أوروبيّة، والشكاوى لم تقدّم من قبل ضحايا ماكينة القتل الإسرائيلية. ومن المؤكّد أنّ العدالة الجنائية وفقاً للقانون الدولي، ليست في قاموس الأنظمة العربية وحتى في قاموس الدول التي تعتبر نفسها عدوّة لإسرائيل.

من تطوّر الخطاب السياسي الاستنكاري، المطالبة بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم في غزّة على المحاكم الدوليّة. أيّ محكمة دوليّة؟ هناك العديد، واحدة فقط لديها اختصاص على الإقليم الفلسطيني، هي المحكمة الجنائية الدوليّة، التي بدأت في مرحلة التحقيقات في العام 2021 بالجرائم المرتكبة منذ العام 2014 وحتى تاريخه لم ينته التحقيق ولم يصدر أي قرار اتهام. بدلاً من المطالبات العشوائية، على كلّ الغيارى التفضّل بتقديم الأدلّة لمدعي عام هذه المحكمة والتعاون معه، حيث لا يزال يستجمع ملفات قضايا الحالة في فلسطين. على من يدّعون الحرص على الشهداء، التفضل بمساعدة ذويهم لتقديم الشكاوى اللازمة أمام المحاكم الوطنية للدول التي تحترم تطبيق اتفاقيات جنيف وفقاً للاختصاص الشامل.

وعلى الدول المتضرّرة من جرائم الإبادة الجماعية، التفضل لمحاكمة إسرائيل وفقاً لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها للعام 1948، والتي أبرمتها إسرائيل في العام 1950. بالرغم من أنّ مقاضاة إسرائيل عمليّة معقّدة بسبب عدم انضمام إسرائيل للعديد من المعاهدات هروباً من تطبيق القانون الدولي، لا يليق بدول ومنظمات عربية وتنظيمات أن تتبارى فقط مع إسرائيل في محاكم سوق عكاظ. إنّ الردّ العسكري المحدود ضدّ العدوّ ليس إلا دعماً له ليكسب نصرة كل الدول الغربيّة خوفاً من خطرٍ تستفيد منه أطراف النزاع لتشرّع استمرارية وجوده.

نعم، إنّ العدالة الجنائية الدولية هي عدالة استنسابية؛ قد تتحسّن لتصبح عدالة رادعة ذات شمولية في حال الانخراط في مسارها. وعلى كلّ حال لم تنشأ المحاكم الدولية لولا خشية عدد من الدول- من ضمنها الدول العربية طبعاً- من توسيع اختصاص محاكمها ليطال جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعيّة.

الشهيد لا يحيا يوم مماته، بل يوم محاكمة قَتَلَتِهِ!

(*) محامٍ دولي وأستاذ جامعي


MISS 3